الابحار الاول – إعدام أم

مدونة مسعود كاكا علي / 29 ، شباط ، 2040 / مكان ( غير معرف ) من ارض الرافدين

بعد سنين طويلة ، اذا كانت ذاكرتي لا تخونني ، وما اكثر خيانتها لي في لحظات الالم الفاصلة بين الموت و الحياة .اتذكر انهم انزلونا من الشاحنة العسكرية في مكان موحش. ولما كنا في اخر الشاحنة فقد وقفنا انا وسعيد البصري و سعد الاعظمي في الصف الاخير أمام الجنود المكلفين بإعدامنا. و يبدو انه لم يكن لديهم وقت كافٍ لكي يهتموا بتنظيم وقوفنا أمامهم. حين سمعت صوت عتلات مخازن العتاد ( الأقسام ) و هي تزمجر في وجوهنا ، تذكرت كل ما روته لي أمي ( زكية ) ؛ التي تبنتني بعد إعدام أمي الحقيقية ؛ عن عشرات الإعدامات التي راتها في حياتها حين كانت تعمل منظفة في سجن (نقرة السلمان ). كانت ماما زكية تستمر في مداعبة شعري المجعد الاشقر قبل النوم حتى أغفوَ وهي تردد على مسامعي الله يرحم أمك ميادة فقد ماتت و هي تصرخ بالجلادين ان يفتحوا بطنها و يستخرجوك من احشائها قبل إعدامها. لم اكن افهم شيئاً من حكايتها عن أمي حتى كبرت واردت ان اذهب للبحث عن اهلي في  مندلي و توديعها. كانت ماما زكية مريضة فأخذتْ تروي بصوت متعب  عن قصة رجل وزوجته أُتهما بارتباطهما  بقوات الانصار الشيوعية في بداية سبعينات القرن الماضي . حيث اعتقلتهما المخابرات العراقية متهمة اياهما بالتخابر مع مخابرات دول اجنبية معادية و اودعتهما في سجن نقرة السلمان في جنوب العراق . كانت المرأة حاملاً ، فتم  انتزاع الاعترافات منها بعد تهديها بأسقاط جنينها . أما الاب فقد تم تهديده بالاعتداء الجنسي على زوجته اذا رفض التوقيع على ورقة الاعتراف الطوعي بالإدانة. ومن بعدها اُقتيد للمثول أمام قاضي محكمة الثورة ، التي صدقت على  الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب بكل الجرائم المنسوبة لهما. فصدر الحكم عليهما ، بالإعدام شنقاً. قدمت الام الحامل التماساً عن طريق مدير جهاز المخابرات؛ الذي كان يتحفظ عليهما لحين تنفيذ الحكم ؛ بتأخير تنفيذ الإعدام حتى موعد الولادة، لكنه رفض الطلب، قائلا:-

– ما حاجة الوطن بخائن جديد !

قدمت اليه التماساً انسانياً اخر بان يستخرج الجنين البريء بواسطة  عملية قيصرية ، فما ذنبه اذا كانت أمه قد ارتكبت جرماً بنظركم . رفض الالتماس   ايضا و قام  بالتوصية ان يتم التعجيل بالإعدام خشية ان تلد المراءة قبل التنفيذ ! اكملت ماما زكية حديثها الاخير لي وهي على فراش المرض بصوت متعب :- في يوم تنفيذ الإعدام ، تقدم الرجل مرفوع الراس وخلفه زوجته الشابة الحامل الى المشنقة . ابتدأ الجلاد جاسب الاطرش بإعدام الرجل . لم تبكِ زوجته الحامل ، صعدت على منصة الإعدام , التفتتْ الى الجلاد وبكت هذه المرة متوسلة اليه ان يمهلها ساعة واحدة فقط لكي تدفع الطفل عله يخرج من بطنها ، فهي في الشهر الاخير وربما ينزل من الخوف و التعب ، لكن لم يستمع لها فقد كان معروفا بقسوته ولعله كان اصماً ولهذا كان يلقب بالأطرش . اخذت المرأة الشابة المتهمة بالشيوعية تستنجد بالله و أوليائه الصالحين واحدا بعد الاخر وهي تبذل قصارى جهدها لدفع الجنين خارج الرحم ، لكن الجلاد سحب حبل المشنقة مسرعا ، فسقطت  الأم الشابة  على الارض ميتةً . لكن ولسبب لا يعلمه الا الله انفرجت ساقاها و خرج الطفل سليما من بينهما. صرخ الجلاد بمن حوله

– هل تريدون ان اعدم ابن ال…. هذا ، فهو لا يزال حيّاً !

لم يمكنهم إعدامه دون وجود قرار من المحكمة يسمح بذلك. كنت في ذلك الوقت اقوم بالتنظيف خارجاً فاستدعوني لكي اغسل المكان الذي سقطت فيه الأم ، فقد تلطخ المكان بدماء الولادة . فقمت بقطع الحبل السري للجنين بسكين معقمة و لففته بمنشفة قديمة . طلبوا مني ان ابقيه أمانة عندي حتى يتم مفاتحة الجهات الرسمية بكيفية التعامل مع وليد المرأة المعدومة . اخذت الطفل الى بيتي فرحةً  به ، فلم اكن قادرة على الانجاب ، فقد كنت انت ابني الوحيد الذي لم تلده بطني ! قمت بسرقة ملف أمك المرحومة و اخفائه عندي ، ولحسن حظي فقد تبدلت الادارة بعد ان حصلت اعمال شغب في السجن و ضاعت على اثره اوراق رسمية كثيرة . اصدرت لك شهادة ولادة باسم مسعود مراد ونسبتك الى عائلة زوجي الذي كان قد تزوج بامرأة اخرى ، لكنه لم يطلقني . الله يسامحني ..

( يمة مسعود: كول …الله يسامح !) عانقتها لحظة الموت ، شممتها طويلاً ، رائحتها لم تفارقني طوال حياتي.

بعد ان توفيت ماما زكية التي ربتني حتى بلغ عمري خمس عشْرة سنة لم يتبقَّ لي احد في قضاء نقرة السلمان . قررت العودة الى مدينة والدي مندلي والبحث عن اقاربٍ لي هناك . كنت كشجرة زرعت لفترة في مزرعة ما ثم نقلت بعد ان اشتد عودها الى بيئة جديدة لم تعتدها،  لكنها كما اخبرني أعمامي ، هي بيئتي الحقيقية. كما اخبرني عمي الكبير .. باني وُلدت كابنٍ وحيدٍ لشابٍّ ترجع اصوله الى عائلة عريقة من الاكراد الفيليين. كان عاشقا لأمي التركمانية و للتمثيل والاخراج المسرحي. حصل على دعوة للمشاركة في مهرجان عالمي للمسرح اقيم في موسكو عن طريق احد اصدقائه القياديين في احد الاحزاب اليسارية الكردية ، التي ربما كان ابوك رحمه الله يجهل حتى اسمها او اهدافها . فاغتنمها فرصة لقضاء شهر العسل مع زوجته . ولكي يحضر بعض المسرحيات والنقاشات حول الادب المسرحي العالمي . بعد عودتهما من موسكو، وجد الزوجان رجال الناس. النظام بانتظارهما في مطار بغداد. ليتم القبض عليهما بتهمة التآمر بالانضمام الى احزاب معادية للوطن و التعاون مع مخابرات اجنبية . مكثا ثمانية اشهر في  السجن  لم يُسمحْ لنا بزيارتهما او معرفة مكانهما. بعد عدة اشهر سمعنا بخبر محزن انهما اعدما بتهمة الخيانة العظمى ، سلموا لنا الجثتين ولم يتم إعلامنا بوجود طفل مولود لهما. هكذا حدثني كبير عائلتنا عمي المرحوم كاكا نوزاد اغا بعد ان ضمني الى صدره خاتما كلأمه : ( انا اصدقك يا بني ، انك ابن اخي المرحوم كاكا علي اغا ، حتى لو كانت اوراقك الثبوتية تقول انك ولدت في قضاء نقرة السلمان لأم واب عربيين من الجنوب لان عينيك هي نفس عيني ابيك حين تضحكان … الله يرحمه كان يحب المزاح والضحك مع كل الناس .. قتلوه الله لا يوفقهم ).

مرت علي كل الحكايات كلحظة من الزمن ، لم استفق الا على صوت اطلاقات الرصاص تنهال فوق رؤوسنا و تحت أقدامنا ، سقط الصف الاول من المعدومين ، ثم سقط الصف الثاني ، رأيت سعيداً يسقط ارضا و سعداً يرمي بنفسه تحت العربة العسكرية و هو يسحبني من قدمي لكي انبطح ارضا ، كنت مشلولا عن الحركة. كأني استعيد كابوساً متكرراً ، عشته من قبل في حياة سابقة او حياة لم تأتِ بعد .. انبطحت ارضا .. تساقطت الاجساد فوقي .. اختنقت انفاسي .. لم اكن اشاهد شيئا سوى ظلام حالك .. ثم ظهرتْ نقطة نور صغيرة وبعيدة .. اخذت بالاقتراب شيئا فشيئا .. كبرت أمام عيني المفتوحتين في الظلام .. كنت ارى عيني أمي التي لم ارها يوما الا من خلال حكايات ماما زكية عنها .. كانتا عيني فتاةٍ جميلةٍ في مقتبل العمر واسعتين و تبرقان بسعادة ، كما لابد ان تكون عليها عيون الشهيدات. اخذت عيونها تروي لي كل ما سيحدث معي في الأيام القادمة . . لم اكن مستغربا فقد حدثتني ماما زكية في طفولتي كثيرا على انها سمعت قصصاً وحكاياتٍ غريبةً في منامها ترويها أمي ميادة؛ التي انجبتني ؛ لكنها كانت تراها في الحلم بثياب بيضاء ملطخة بدماء الولادة وهي تهوي من المشنقة الى الارض .. كانت  تروي و تروي بصوت انثوي مخنوق لكنه صافٍ كصفاء سماء الصحراء الزرقاء حين لا تكون هناك حركة من ريح تثير غبار الهموم البشرية ، صوت الهي من عالم اخر!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *