الابحار الاول – تعارف في شاحنة إعدام

مدونة سعيد البصري / 29 ، شباط ، 2040 / مكان ( غير معرف ) من ارض الرافدين

 رايته متعبا وجائعا بعد ان قضى كابوس ( ليلة الانسحاب) وهو يعدو تحت وابل القصف الأمريكي . الذي لم يكن يتوقف ابدا ، بغية قتل اكبر عدد من الجنود وتدمير كل الاليات العسكرية . اقتادوه معي معصوب العينين واصعدوه الى شاحنة عسكرية كانت تستخدم لاعتقال الناس في النهار و إعدامهم ودفنهم ليلا . رائحة الدماء كانت نافذة  بقوة و لونها الاحمر اصطبغت به ارضية و جدران الشاحنة . ادعى انه من مدينة مندلي ، لكنه كان يتكلم اللهجة الجنوبية الدارجة . تم اقتياده من قبل الحرس الخاص بعد ان قام مع مجموعة من الجنود  الغاضبين  بحرق جدارية  تظهر فيها صورة كبيرة للرئيس وهو يحي الجماهير. دفعونا في الشاحنة المكتظة بالأجساد  ، فتكومنا  ككتلة من الاجساد  البشرية  المتداخلة في  مؤخرة الشاحنة العسكرية . التي سوف تنطلقُ  للوصول الى مكان الإعدامات الجماعية في احدى المناطق  المعزولة في مدينة البصرة. انحشرت اجسادنا في نهاية العربة ؛ تداخلت ارجلنا وايدينا وجماجمنا الملطخة بالدم والطين . كانت عظامنا تصطك كلما اهتزت الشاحنة متعثرة بالحفر التي خلفتها القنابل والصواريخ. رائحة الموت امتزجت برطوبة جو آذار المشبع بالعواصف الترابية ، حيث الذباب اللامرئي كان يطن قرب اذاننا  دون ان نراه . اذ لم تكن اشعة الشمس  تنفذ  من خلال الغطاء السميك الذي يغطي سقف عربة الشاحنة الا بصعوبة . كانت رائحة جثث القتلى المتناثرة  في الطرقات تزكم أُنوفَنا . كنا في طريقنا للوصول الى احدى مناطق المقابر الجماعية ؛ حيث ستكون احدى الحفر الكبيرة بانتظارنا ؛ ليتم دفن اشلائنا بعد ان تتناثر لتلقيها وابل من رصاص فرقة  الإعدام الجماعي، كما حدث طيلة الأيام الماضية لمن سبقونا في رحلة الإعدام .

القوا القبض على جميع الرجال المتواجدين في مرمى اطلاق النار من جسر الزبير الذي يربط قضاء الزبير بمركز مدينة البصرة. لم يفرقوا بين العسكريين الحفاة المنسحبين من الكويت تحت قصف الطائرات الأمريكية و بين المسلحين المنتفضين ضد نظام صدام  و بين المدنيين العزل من أمثالي . خرجت قبل ثلاثة ايأس للبحث عن دواء لابي  الذي كان يعاني من سرطان الرئة ، خرجت من دارنا في قرية جرف الملح  التابعة لقضاء شط العرب متوجها للمستشفى الجمهوري؛ راكباً دراجتي الهوائية ؛  كنت احاول تجنب نقاط الجيش المنتشرة في الشوارع الرئيسية فسلكت بعض الشوارع الفرعية. لكني فوجئت  بإطلاقات احد القناصين من فوق سطوح احدى البنايات على النقطة العسكرية في الشارع الرئيسي . اسرعت بدراجتي مبتعدا عن مكان الاطلاقات ، التي كان صداها يرتد من الجدران فيأتي صدى الاطلاقات من كل الجهات. تم تطويق المنطقة لمحاصرة القناص، لم يكن أمامي سوى التوقف أمام الشاحنة التي تقدمت نحوي مهددة بأطلاق النار نحوي اذا لم اتوقف . تم وثاق يدي وعصب عيني و اقتيادي الى شاحنة عسكرية اكبر حجما ، بصحبة العشرات من الشباب والرجال الذين تواجدوا في المنطقة خلال تلك الظهيرة .

بقينا طيلة الليلة الاولى في شاحنة الموت ، ننأم ونصحو على صوت الانين الذي لا يتوقف من المصابين ، الذين كانوا ينزفون دون ان يتم علاجهم . فمن يموت ينقل بعد ان يكتشفوا ذلك بعد عدة ساعات ، يبدو انهم لم يكن لديهم أوامر بإعدامنا . لم تكن الشاحنة فيها مكان للتبول او التبرز فكانت الروائح الكريهة تمتزج برائحة الدماء العبيطة و اصوات انين الجرحى بأصوات الذباب . في صبيحة اليوم التالي  انطلقت الشاحنة الى مكان اخر، خمنت انه يقع بين جسر الزبير و ساحة سعد . توقفت الشاحنة لفترة انزلوا كل من كان به جرح ينزف . اخذوهم مشيا على الأقدام في طابور ، والذي لم يقدروا على المشي تم سحلهم فحدث صياح و ضجيج ، سمعنا صوت صراخ و بكاء … صوت رشقة من الرشاشات …ثم  صمت .

بعد ظهيرة اليوم الثاني جلبوا مجموعة اخرى وتم حشرهم معنا في العربة العسكرية ، كان من بينهم شاب اسمر البشرة ، طويل القامة ، كان معصوب العينين  فداس بقدمه على جسد احد الجالسين ، صرخ به متألما : (انت اعمى ما تشوف ؟ ) فرد  عليه  بلكنة كويتية : (سامحني يا الاخو عيوني معصبة ) ، ازحنا عنه العصابة ، طلب ماء لم يجبه احد . جاءت دفعة جديدة من المقبوض عليهم ، فحصل تدافع شديد وعلت عبارات الشكوى ، قام الجنود بضرب الاجساد القريبة من حافة الشاحنة فتدافع الجميع الى الوراء صامتين . استند  الشاب الاسمر الطويل بيده على صدري الى ان استقر. قلت له: انت كويتي أم عراقي ؟ اجابني : نا عراقي ولكني ولدت و عشت في الكويت

– ما لذي جاء بك للعراق ؟ رمقني بنظرة حادة ؛ اشعة الشمس المحرقة اجبرته على خفض بصره الى الاسفل ؛ متمتما : (حظي الاسود جابني !)

في الليلة الثانية انطلقت العربة العسكرية الى طريق صحراوي ر بما كان الطريق الذي يؤدي الى قضاء الفاو . لم نبتعد كثيرا حتى توقفت العربة . نزلنا قرب احدى الدبابات  المحترقة . كانت الرياح الجنوبية الرطبة تحمل لنا رائحة شياط  لحوم بشرية محترقة  ممتزجة برائحة عفونة براز و مياه آسنة. هواء الليل البارد اصبح ينخر في عظامنا ، بعد ان سمعنا صوتاً اجش يصرخ بالجنود : ( خلوهم دوا !).  لم نفهم ماذا يقصد ، لكن رائحة الموت  اخرست اصواتنا قبل  ان نبتدئ  بالصراخ او السؤال عن سبب ما يحدث لنا . لماذا نحن مَن نُقتلُ في هذا الليل ، في هذا المكان الموحش ؟ و لأي ذنب فعلناه، لماذا يكرهوننا لحد القتل ؟  ما من معنى لأي شيء ، سوى ان انفاس رائحة الموت الباردة و الموحشة تنفث بقوة في كل مسام من اجسادنا و تصرخ في وجوهنا : لا مفر أمامكم ، انها النهاية ! لم يكن لنا الشجاعة للبكاء او النحيب ، جفت كل الدموع في عيوننا و استقرت بصمت في قلوبنا ، و جمت عيوننا ، كان الظلام حالكا ، فلم نرَ وجوههم و لم يروا طفولة عيون شباب في العشرينات من اعمارهم كيف تبرق وتسال: لماذا ؟ فقط نريد ان نفهم ، لماذا ؟!

كل ما اذكره ان العربة خلفنا و فصيل الإعدام أمامنا يحملون  رشاشات روسية  دون مقابض  كنا نسميها (غدارة ) ، اكيد انها ستغدر بنا. تذكر كل منا طفولته في تلك اللحظات الاخيرة .. بالنسبة لي تذكرت طفولتي في قرية جرف الملح ، حين كنت ارتدي ثوباً ابيضَ و اجري قرب ضفة  نهر صغير متفرع من نهر  جاسم ، كان  يفصلنا عن الجهة الاخرى من ارض جدي ، حيث كانت النخلة المنبطحة وقد تفرع من منتصف جذعها نخلة اخرى و كأنها ولدتها . كنت اصل الى طرفها فأصير واقفا في منتصف النهير، وحولي الماء دون ان ابتل . سمعت صوت  ابي  يطلب مني ان ارجع قبل ان يختل توازني واسقط في النهر ، فلم اكن اعرف السباحة . كان القمر تحت جذع النخلة يبحر في الماء بصمت و حزن  باكيا عليَّ بصمت ، تسيل دموعه  فيرتفع المد في النهر.  كانت الصور واضحة وسريعة ،يكبر، أمامي كشريط سينمائي بالأبيض و الاسود لا يريد ان يصل لنهايته . لن ينقطع سيل الصور ، حتى لو اطلقوا الرصاص نحو رؤوسنا  وتبعثر  مخي ، فلن تتوقف مخيلتي . سمعت صوت الرصاص دون انذار مسبق سقطت على الارض ، ساد الصمت .. استمرت الصور.. صارت بالألوان .. وجه المرحومة أمي متوردٌ ، مبتسمٌ وهي تودعني ذاهبا  الى مدرستي الثانوية ، كانت فرحةً وهي ترى ابنها البكر وقد تحقق حلمها به ،(ما قصرت ربي ! ابني راح يصير مهندسا حين يكبر  ، الله يوفقك و  يفرح قلبك ،  ابني !)  كنت أمشي في الدروب الترابية واتذكر قدمي الحافيتين  بعد خلع الحذاء المهترئ الذي ملت الثقوب فيه من اعادة الترقيع . خطوات صغيرة تلاحق بعضها  في الطريق الطيني(  الميسمي ) من  القرية ذاهبا  الى حقل جدي في طرف القرية حيث تختلط الأملاح بالتربة الطينية .. عادت الصور بالأبيض و الاسود… حين كنا نحرث الارض حتى انتصاف الظهيرة ثم نعود معرجين في طريق عودتنا الى دار بصير القرية المعلم غير الرسمي لكل فتيان  القرية . نجتمع في حضرته جالسين تحت شجرة السدر الكبيرة في مدخل داره.. . اصبحت الصور تأتي زاهية بالوان اكثر تنوعا و وضوحا …. كان يحكي لنا في أيام طفولتنا عن قصص خرافية عن معارك كلكامش ؛ ملك بابل ؛ ضد وحوش و اشباح العالم الاسفل. و معارك ذي القرنين ضد الأمم المتوحشة. و قصة الخضر عليه السلام ودخوله في بحر الظلمات ، واغتساله في ماء الحياة و كيف اصبح عمره طويلا و لم يمت حتى الان . وحين اصبحنا فتيانا وتجاوز بنا العمر السادسة عشْرة سنة ، كانت المخيلة الصورية قد بلغت اوجها ، حين بدا يحدثنا عن كتاب قديم . كان يسميه كتاب المحو تحوي صفحاته على صور مطبوعة بأحبار سماوية , تتغير الوانها بمرور السنين , فيبتسم الحظ لِمَن يطالعها بحب و تسليم و يعبس في وجه من يشاهدها بشك و عناد  ، فيبتليه الله بأنواع الاختبارات و البلوى . فمنَّا مَن يصمد ويعود ليشاهد صُوَراً اجمل في صفحات اخرى ، و منَّا مَن يفشل في الاختبار فتصبح الصور اشد ظُلمة و الماً . كنا نسأله ان يرينا هذا الكتاب . فكان يقول ان التحديق فيه يضعف بأبصاركم ، و قد تفقدون البصر. فاستمروا بتخيله ففيه راحة للبصيرة ، كما في رؤية ماء النهر او افق البحر راحة للبصر !  كنت احلم كثيرا حين اعود من مجلسه . ربما. روحي في ذلك اليوم الذي هربت فيه من فصيل الإعدام  قد حلمت كثيرا .. اكثر من كل الأيام  والليالي في حياتي .. ربما كنت ميتا و انا احلم بالحياة من عالم اخر …ربما … لكن باي حياة كنت احلم ….؟!   

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *