الابحار الاول – قمر بوجهين

مدونة سعد الاعظمي / 29 ، شباط ، 2040 / مكان ( غير معرف ) من ارض الرافدين

# (حظي الاسود جابني !)

كان يقيني ان الحظ الاسود هو ما جعل قمر حياتي في محاق دائم ، وتلك عبارة شعرية استعرتها من نورا ابنة خالتي و صديقة طفولتي و حبيبة أيام شبابي . حين يغيب عن ذاكرتي وجهها الطفولي البريء باستدارته التي تشبه القمر ليلة اربعة عشر ، و بياض بشرتها  فاني لا استطيع ان انسى ضحكاتها المتغنجة  حين يناديني  والدها ؛ زوج خالتي قائلا: تعال يا الاسود!

كنت اقول لها : لماذا انتِ وانا نفكر ببعضنا دوما ؟ كانت تجيبني بمكر: لأنّنا نصفانِ لقمر واحد ؛ انا الوجه المضيء وانتِ الوجه المظلم ! كانت تهرب حين اتظاهر بمهاجمتها و القبض عليها من ضفيرتها الطويلة فتصرخ و تهرب ، و يعجبني انها كانت في الاخير تقوم بالقرفصاء و تشهق: (دخيلك ، وكف!)

لم اعرف في حياتي أباً غير زوج خالتي ، فقد توفي ابي حينما كنت صغيرا و عمري خمس سنوات. قالوا لي انه تم اقتياده الى سجن نقرة السلمان في جنوب العراق بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي ، وبقي هناك الى ان مات او تم إعدامه ، من يدري! بقيت مع والدتي في بيت خالتي المتزوجة من احد التجار الكويتيين (ابو نورا). لم تكن أمي و خالتي  المقيمتان في الكويت قبل عشرين سنة من غزو القوات العراقية للكويت تتخيلان يوما بانهما قد يشاهدان خالي الوحيد الساكن في منطقة الاعظمية ببغداد يزورهما ببدلته العسكرية بعد  كل السنين الطويلة ، التي لم يتبادلا  فيها الا رسائل و اتصالات متقطعة،  مضمونها السؤال عن صحة والدهما العجوز الراقد طريح الفراش في الدار القديمة على نهر دجلة ، اثر اصابته بمرضِ عضال . انتهت تلك المراسلات  ببرقية مقتضبة ارسلها  لهما  اخوهما قبل خمس سنين (البقية في حياتكما ، دفنته قرب ضفة دجلة كما اوصى).

الخال الوحيد احتضنني في ذلك اليوم القائظ من آب ، كانت تفوح من بدلته المرقطة رائحة العرق والبحر. قال لي: (انت الوحيد الذي يشبهني من العائلة ، ثلثي الولد على خاله)!

كنت في العشرين ،من عمري ، طالبا في احدى الجامعات الكويتية بكلية الأعلام . تعطلت الدراسة ، اجتاح الخراب والدمار البلد. استباح الجنود المباني الحكومية و سرقوا ما فيها. و كسر بعضهم المحلات التجارية لكنهم لم يدخلوا البيوت المسكونة. تكومت الازبال في الشوارع وقلت المؤن و الطعام فقد حصل كل شيء بغتة. خرجت مع ابن خالتي للمساعدة في توزيع الطعام و الوقود فقد انقطع التيار الكهربائي و غرقت الاحياء ليلاً في الظلام الدامس. كنت قريباً من اصدقاء طفولتي الذين نشأتُ معهم في الحي و ترعرعنا معا متقاسمين همومنا و افراحنا ، جدنا و مزاحنا ، رحلاتنا الشبابية و اسرار مراهقتنا . لم يمنع اصل ابي العراقي ان احس انهم اهلي و أتضامن معهم في أيام المحنة ، لم اشعر اني غريب عنهم. و حتى من كان يعرف منهم ان اصلي عراقي لم يبادلني اي لحظة شك اني في صف المقاومة ضد المحتل . على الرغم انهم شاهدوا خالي ؛ الجندي العراقي ؛ و هو يحضنني الا انهم ادركوا ان اغلب الجنود العراقيين لم يرغبوا في غزو الكويت . بل انهم كانوا متعبين من الحروب ويتمنون لو ينسحبون الى بلدهم في اسرع وقت ، لكن فرق الإعدامات كانت بانتظار كل من يفر منهم من وحدته العسكرية.

حين بدأتْ حرب التحرير ، قامت قوات التحالف بقصف مواقع القوات العراقية. و انطلقت المقاومة الكويتية  بضرب الدوريات العسكرية اثناء الليل ، انضم اليهم ابن خالتي الاكبر الذي كان ضابطا في الجيش الكويتي. بعد اسبوعين من بدء المعارك جاءوا به  شهيدا مضرجا بدمه. كان منظرا مؤلما ان ارى والدتي و خالتي وابنة خالتي نورا وهن يبكين لساعات طويلة حزنا لفقدانه . لم اكن ادري بأنّ في قلبي كل هذا الحب لنورا حتى رايتها جالسة وحدها ليلا  في غرفة والدتي المظلمة الا من شعاع مصفر لقمر اتشح بسواد دخان ابار النفط المحروقة . فاجأتني بسؤالها

– انت مختفٍ هذه الأيام ، اين كنت؟

– موجود .

– لا انت بعيد عني … اقصد بعيد عن اهلك ، أنسيت اننا في أيام حداد وحرب؟

– لا لم انسَ ، لكني انضممت الى خلايا المقاومة بعد استشهاد أخيكِ.

– يا الله … يا سعد .. والله انك كبربعيني …

– يعني انتِ تحبينني يا نورا

– …..

– لِمَ تسكتين؟

– ليس وقت هذا الكلام.

– بل وقته ، احس انها اخر أيامي في الدنيا

– اسكت.. الله عليك ، لا تقل هذه الكلمات ، سأموت حينها.

كانت نورا تقوم بالتَسلل مع احدى خلايا المقاومة الى السعودية  لنقل المعلومات التي نحصل عليها لتحركات و انتشار القوات العراقية و اساليب التمويه المستخدمة من قبلهم. فبعد ان سلم احد الضباط العراقيين نفسه للمقاومة في احد المساجد ، اعطانا خرائط اجهزة التنصت المنصوبة باتجاه قوات التحالف. وذلك بعد ان اخذ وعدا منا ان نقوم بإيصال رسالة الى زوجته في قضاء ابو الخصيب  بالبصرة ، لكي  تغير مكان  سكنها ، و تذهب الى احدى قرى الناصرية حيث يسكن اهلها ، لكي لا يعثر عليها افراد الاجهزة الأمنية للنظام. اختارني قائد خليتي للذهاب الى البصرة واخبارها ، لكوني عراقي الاصل و احمل جنسية صادرة من دائرة احوال الاعظمية في بغداد.

كانت مهمة خطرة بالنسبة لي ، فانا لم اغادر الكويت طيلة حياتي . كان ابعد منطقة زرتها هي جزيرة فيلكا في احدى الرحلات الصيفية مع اصدقاء الحي . لم اكن معتادا على التحدث مع الاغراب كثيرا او التظاهر بغير شخصيتي. على العكس ، كانت نورا كثيرة الاسفار خارج البلاد مع ابيها ، متحدثة لبقة ولها علاقات اجتماعية مميزة وخاصة مع النساء العاملات ضمن الجمعيات الانسانية النسوية الاجنبية التي كانت تزور الكويت . فقد استمرت في التواصل معهن بعد الغزو ، فكانت تجلب لهن احتياجاتهن الشخصية و تساعدهن في التواصل مع ذويهن عبر البريد الذي كانت تقوم بنقله الى السعودية. كانت تتخفى بأسماء و شخصيات وهمية، مستعملة  هويات مزيفة لكي لا يقوم افراد الاستخبارات العسكرية بكشفها . فقد اضحى اسمها من ضمن قوائم المطلوب القبض عليهم ، و تم توزيعها على نقاط التفتيش العسكرية . كانت تبدو عصية على الخوف او الرهبة في زمن الخوف و الظلام ، كفراشة تنشر الأمل وسط ركام الحرب و تبدد الأحلام بشروق شمس لغد افضل. فكل يوم كان أسوأَ من الذي سبقه، فما ان بدأت حرب التحرير حتى تصاعد دخان ابار النفط في الجو ، اصبحت الشمس خلف غيوم من دخان الكاربون و الغازات السأمة. الوجوه التي لم تكن تغادرها الضحكات اضحت غائمة كأنها تريد ان تمطر بأمطار حامضية . كما تردد نشرات الاخبار عن الخطر المحتمل نتيجة لضربة بأسلحة كيميائية قد يطلقها المحتل  اذا شعر بهزيمته. او ربما سيعمد الى احداث تلوث بيئي نتيجة لتفجير جميع ابار النفط . كانت الارض تغلي من تحت أقدامنا والجو يظلم على مد البصر. لكني كنت اتطلع فقط الى نورا و هي تنير قلبي في كل ما تفعل وكل ما تقول (نموت و يبقى الوطن!) اه ، ما ابسط كلماتها و احلاها و اكثرها براءة وعظمة . ما اروعها ، كلما اختفت فإنها تعود اشد عزيمة من جيش من الرجال. لكنها هذه المرة اطالت  الغياب ، اخشى انها تعرضت لمكروه او انهم أمسكوا بها عند احدى نقاط التفتيش. كنت اريد ان اودعها قبل ان اذهب لتنفيذ مهمتي في البصرة. ان اراها ربما للمرة الاخيرة ، فربما سأذهب ولن اعود الى وطني و اهلي مرة اخرى.

سأذهب الى البصرة غدا صباحا. لا اخبار عن نورا. الشباب في خلية المقاومة اخذوا الضابط العراقي المتعاون معنا الى  بيت بعيد عن اعين جنود و مخابرات النظام بعد ان اخبرهم بعنوان والدته في ابو الخصيب جنوب البصرة. صباحا اخذت سيارة اجرة و ذهبت الى الحدود الشمالية ، كان الطريق مزدحما بالأرتال العسكرية والمدرعات المعطوبة و هياكل  الجنود الذين باتوا اقرب الى اشباح هدها الخوف و الجوع. كنت اشعر بالإشفاق عليهم اكثر من الرغبة بالانتقام و القتال ضدهم. كأن  العدو اضحى يداً عملاقة هلامية تجثم على القلب و تكتم الانفاس ، لم يكن له وجه انسان ، بل وجه وحشي خفي ، يدب تحت جلودنا ، كانه منا ، و لكنه لا ينتمي الينا!

بعد ان وصلت الى الهدف و اتَمَّمتُ مهمتي ، كنت اريد العودة مسرعا الى الوطن فقد كنت منشغلا بالتفكير بنورا ، و بخلايا المقاومة فقد كنت متشوقاً لأطمئنهم بان زوجة الضابط و اسرته سافروا من ساعة وصول الرسالة الى الناصرية . لكن قصف قوات التحالف اشتد على ارتال الجيش المنسحبة من الكويت . نصحني أحد الجنود المنسحبين من الكويت ( لا تذهب اخي للكويت ، الدنيا محترقة على الطريق ) ، فأجبته : لا بد ان اعود بسرعة . وصلت الى جسر الزبير ، كان الجسر قد تم قصفه من قبل الطائرات قبل ساعات من وصولي . لم يكن بالإمكان العبور الا عن طريق السباحة . كان المئات من الجنود المنسحبين يسبحون من الضفة الاخرى باتجاه البصرة . رميت نفسي في النهر ، كنت الوحيد الذي اسبح باتجاه الزبير للوصول حدود الكويت ، صرخ بي احدهم ( انت مجنون .. اين تذهب ، ارجع ، فقط الموت هناك ، فقط الموت !). جاءت احدى طائرات التحالف الضخمة ، من صوتها المخيف اعتقدت انها B52 ، حلقت فوق الجنود السابحين في النهر ، احسها فوق راسي … اذا القت حمولتها فنحن جميعا سنكون من الهالكين لامحالة …تقدمت نحو الجسر القت باطنان من القنابل التشظية , احسست بماء النهر يفور كبركان يعلو و يبتلعني بحممه و يجرني الى الأسفل .. غصت نحو الاعماق .. أخذتُ ارى صورا غريبة لعلَّها في مخيلتي .. احسست بالاختناق و روحي تصل الى حنجرتي … اختنق من الماء الملوث برائحة البارود والطين و الاعشاب … مئات الاصوات تصرخ باذني ، هل قامت قيامتي ، أم انها اصوات الغرقى و الجرحى ينادون طلبا لمن ينقذهم وربما هي اصوات من ماتوا يطلبون الرحمة من ملائكة الموت!

يد ضخمة تخرجني من  قاع النهر و تلقيني على الساحل ، هامسة باذني : اخرج فانك قد نجوت! لا اعرف من كان يمسك بيدي ، ويرفع جسمي ، لعله احد الجنود ، بل ربما كانت مجموعة من الجنود ، فقد كانت ايديهم قوية لكي تنتشلني بتلك القوة والسرعة!

حين وصلت الحدود ، أمسك بي مجموعة من جنود الانضباط العسكري ، عرفتهم من خوذهم العسكرية الحمراء الداكنة ، سألوني :لماذا تريد العودة للكويت ؟ طلبوا مني بطاقتي الشخصية ، فقد كانت لهجتي الكويتية مثار شكهم. ابرزت بطاقتي الشخصية العراقية. كانت متآكلة الحواشي و مبتلة . كانت صورتي فيها منذ أيام طفولتي حين كان عمري لا يتجاوز العشر سنوات ، صادروا هويتي و بطاقة الاقامة الكويتية و نقودي و قلم مذهب كانت نورا قد اهدته لي في عيد ميلادي الاخير .سلموني الى الاستخبارات العسكرية وبعدها الى جهات أمنية يرتدون ملابس مدنية . احتجزوني في غرفة بإحدى البنايات التابعة لإحدى الفرق الحزبية في البصرة. في الصباح اخرجوني مسرعين مع مجموعة من المعتقلين بعد ان دوى انفجار قوي ، اثر قذيفة أطلقَتْها احدى الدبابات الناجية من محرقة الانسحاب على جدارية كبيرة تناثرت في الجو فلم يتبقَ منها سوى جزء صغير مكتوب عليه (تحية للرئيس القائد )! أمام بقايا احجار الجدارية ، كانت تجثم تلك الدبابة محترقةً و من حولها جثث جنودٍ متناثرة الاعضاء ، تنهش ببعضها الكلاب الجائعة .عصبوا عيني ثم دفعوا بي وسط اجساد متكومة في شاحنة عسكرية انطلقت بي مسافة طويلة ، قبل ان يرفع احد الشباب المحتجزين العصابة عن عيني مبتسما بسخرية سوداء ، جسدت مهزلة حياتنا  قائلا : انا سعيد وانت ! فأجبته ساخرا : (انا بو السعد كله!).     

سارت بنا الشاحنة طويلا حتى ظننت انها تسير دون الحاجة للتزود بالوقود ، ربما كان وقودها دماء المغدورين ! حين توقفتْ في مكان موحش علمت انه اخر المطاف بنا ، ها قد وصلنا الى اخر الطريق ، كنت متعباً جدا ، وددت لو أنتهي من كل هذه الفوضى ، بان يوقظني ابو نورا من هذا الكابوس فيمازحني كعادته : ( استيقظ يا الاسود ، حصلت على كاس العالم بالنوم !). ات يوقظني صوت نورا ، كما فعلت وهي تودعني اخر مرة قبل اختفائها قائلةِ : اذا سمعتَ يوما اني قد مُتٌ ، فبماذا ستتذكرني؟

– لا تحكي عن الموت الحياة ،أمامك حياة طويلة ، انا من سيموت أولا.                                                          

صوت الاطلاقات بدد صوت نورا. و جعل عيونها تختفي خلف غيوم هذه الليلة التي اغتيل قمرها ، و صمتت عيون و افواه المحبين على أمل اللقاء في عالم اخر… عالم لا وداع فيه بين المحبين و لا فراق.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *