الابحار الثالث – الباب الثاني من كتاب المحو

الباب الرمزي

اخبرني سعيد البصري قبل ان يسلمه بصير القرية كتاب المحو ، ان فك شفرة الرموز التي في الكتاب ، هي من كانت تستنطق الصور لتبوح بأسرار أقدارنا في حكايات المحو المتعددة. و إنّ قصص الاثبات التي عشنا واقعها ما هي الا رموزٌ تم فك شفرتها ، أما بوعي من حواسنا الخارجية أو مداركنا الباطنية. و لهذا فقد تتبعت الرموز في هذا الباب بعد ان كنت مدهوشا بالصور سابقا. لأتوصل الى اليقين بان الرمز هو المحرك لعشرات الصور و المؤثر في تتابعها  او تزامنها او تطابقها!

رمز ( التمثال الحجري ) #

تمثال من حجر البازلت الاسود ، لعله يرمز الى انسان برأس ثور او اسد او ربما تنين . فهذه الحيوانات اضافة الى النسر طبعا هي من كانت تسلب لب المكتبيين في مكتبة بابل المقدسة التي انتظمت كتبها اللانهائية كرمز للكون المتمدد بانتظام دقيقٍ جداً . ولكون كتاب المحو هو فهرس فهارس الكتب كلها ، فلابد ان تكون رموزه مفتاحاً لرموز الكتب كلها. فلهذا لا يجب ان نحصر تفكيرنا بتفسيرٍ محدد لرموزها . و لنترك شفرتها تعمل بفضاء الاحتمالات دون ان نعطي احكاماً مسبقة. فكلما ظننا انا اقتربنا من التفسير ، سنجد اننا ما نزال نتحرك في مجال قشرته السطحية ، دون ان نلامس لب حقيقته. فلنكن حذرين ، خشية ان نُحرم من ولوج الحكاية ، التي ابتدأت بتحرك التمثال من قاعدته الصخرية المربعة ونزوله سريعا من اعلى المدرج البابلي الى وسط الحلبة . كان متحفزا للقتال كأنه ثور مجنح . كانت المعركة على وشك البدء حين دعته الى فراشها المحرم بقبلة من شفتيها الباردتين . قالت له (اسمي لورا فيلدمان ، فما اسمك ايها الشرقي المتحدث بأربع لغات ؟ ) كان ينظر اليها بعينيه العسليتين ، كأنه يكتشف سر غواية الانثى لأول مرة في حياته . فما عاشه سابقا لم يكن سوى عشقٍ لخيال فتاة وردية اللون من ورود أرض بلاده البعيدة . اخذ يهمس في أذني لورا بكلمات الحب بالعربية والكردية والسويدية والانكليزية. فتضحك منه وتطالبه بالصمت و الاندماج بمتعة اللحظة . كانت الخطوة الاولى في ترويض عقله هي ان تفقد نفسه براءتها الفطرية وذلك بعد ان يتذوق جسده طعم تفاحة الخطيئة الاولى من يد حواء، كما يزعمون ! و بإيحاء من رأس الافعى الكونية التي تحرك لورا . تلك الافعى المختفية بألف قناع ، المتخذة عدة اسماء ، لن يعرف اسمها الحقيقي الا بعد أن تسمم روحه بالكامل فيغدو جزءا منها ، تسري تحت عروقه .. داخل شرايينه و أوردته الشعرية الضيقة والمتشعبة في كل انحاء جسمه .. تزحف ..تتقدم .. ببطء  احيانا و بسرعة احيانا اخرى .. منتقلة من قلبه حتى تصل الى تلافيف مخه .. حيث الحجرات المخية التي تصنع أحلامه .. تسيطر عليها .. بإيحاء من الطبيب ( الساحر الاكبر ) الذي يرقيها بتعاويذه عبر جلسات التنويم المغناطيسي التي يتم الادعاء انها جلسات للتعافي من كوابيس الأحلام .. الكوابيس سوف تتوقف .. ستحل مرحلة من السلام الوهمي في جسده المريض منذ الاف السنين بخرافات و اساطير شعبه التي ورثها من حضارات سومر و بابل وأشور و حضارات الغزاة العيلاميين و الرومانيين و اسفار السبي و رؤيا الانبياء التوراتيين.. كلها سوف تُفرغ  من راسه المسكين .. كان جسمه يرتجف من البرد .. محموماً ، ينضح عرقاً .. يبس فمه من الظمأ .. الظمأ.. لقد سرى فيه السم .. احتضنته لورا بقوة … كان جاهزا لتنفيذ  المهمة .. سوف ينقل  كل ما تم حقنه به من جراثيم الاحساس بانسحاقه ودونيته أمام التقدم العلمي و التكنولوجي للشعوب المتحضرة .. حين يعود لوطنه سوف ينشرها .. (( – حجي انتو ما عايشين حياتكم هنا ، بالخارج الشعوب و الناس متقدمة جدا .. كلشي بنظام .. الانسان اله قيمته .. الوقت اله قيمته .. كل شي متوفر، الرفاهية ، الخدمات التعليمية ، الصحية … حتى الجلاب هم عدهم ضمان صحي… انتو هنا شنو عدكم غير الفقر والجوع و الجهل و الحرمان .. تخافون حتى تحلمون بالمستقبل .. أحلامكم محدودة .. فقط شلون تأكلون وتشربون .. عايشين باسترخاء وجهل .. عايشين بالقرون الوسطى …تفكرون بالخرافات الدينية … واحد ياكل الثاني … حجي هاي حقيقتكم .. انتو ناس متخلفين لازم تتعلمون من الغرب .. تبدون من خط الصفر … تبدون تفكرون .. تنفجرون .. تنتفضون …لازم ما تخافون ..ما تخافون ….)) اخذا جسمه بالارتجاف اكثر .. يحتضن لورا يهذي بآخر كوابيسه ( انا خايف .. انا خايف )) تحتضنه لورا ( لا تخف نحن سنقف وراءك .. نحن بكل شركاتنا و اعلامنا و حكوماتنا و بنوكنا الدولية سنخطط .. ننفذ كل خطوات الحرب المقدسة ، سوف نقوم بتغييرهم سوف نخلق منهم أمة جديدة … ابتدأنا بالصدمة و بالترويع في الحرب الاولى … ثم التجويع ثلاث عشرة سنة … ثم سنعود للمرحلة الثانية من الصدمة والترويع حين نحررهم من الدكتاتور ..وبعدها سنبتدئ بالترويع الاكبر والفوضى الخلاقة .. حينما سيذبح الاخُ أخاه عند ضفاف الانهار ….حينها سيطلع عليهم يأجوج ومأجوج من كل حدبٍ وصوبٍ .. بعدها سوف يجوعون الجوع الاكبر .. حتى يبنوا اسوار الدم بين مدنهم و يسلمونا كل ثرواتهم بأيديهم ..سوف يكونون أمة جديدة خاضعة غير متمردة .. وعندها سوف يكونون متحررين من خرافات العظمة و التكبر على الأمم الاخرى …سوف تشهد ذلك كله يا حبيبي بعينيك الجميلتين  هاتين … فاحذر ان تبكي عليهم… فهذا ما قرره عليهم الرب منذ الاف السنين حينما تحدوه وصنعوا برجهم المشؤوم .. حينما سبوا  شعب الرب و عذبوهم سبعين سنة … ) استيقظ من كابوسه الاخير…كانت الحية تلتف حول جسمه .. مستعدة لتنقض على قلبه و تسممه الى الابد .. لكنه اطبق بيديه القويتين على رأسها .. أمسكها من عنقها الأملس الجميل .. صرخت به انت تخنقني يا حبيبي ماذا تفعل .. خخخخخخ … اني اختنق …. ابعد يديك .. ازدادتْ يداه بالضغط .. تذكر ما فعلته بأبناء شعبه .. حضرت وجوه أمنية وأم صابرين و الطفلة الذاهبة للمدرسة و وجوه اخرى لم يعرفها و اخرها وجه لامرأة ستغرق في دجلة عند جسر الائمة  .. صاحت به: (انا والاف من النساء و الاطفال و الشباب والرجال المتعبين اختنقنا ايضا و طفت جثثنا وساحت في كل الانهار و عند سواحل البحار .. اخنقها .. اخنقها .. قبل ان تخنقنا هذه الافعى المخادعة .. اخنقها .. اخنقها … )). الافعى نفثت كل سمها فوصل قلبه .. يداه اطبقت على رقبتها .. حتى خمدت عن الحركة تماما …!

عند الصباح حضرت شرطة التحقيق (سكوتلاند يارد) الى شقة  المدعوة لورا فيلدمان في وسط لندن . فوجدوا جثتين متصخرتين مسودتين ، لرجل على هيئة اسد منتصر يجثو على جسد ضحيته المضطجعة تحته ، مرتديه ثياب مقاتل قديم! كان الجسدان ملتصقين كتمثال واحد. تم تصويره من قبل مختصين في علوم التنقيب عن الاثار و الأنثروبولوجيا ومطابقته مع صور التماثيل التي سرقت من بلاد الرافدين ، فاكتشفوا انه تمثال (أسد بابل) الذي هرب من متحف اللوفر كما هي عادته ، كلما احس بخطر يهدد بلاده ، لينقض على اعدائه ويفترسهم . فقاموا بتسليمه الى ادارة المتحف ، مع كتاب توصية بإعادته الى مسقط رأسه لان حوادث الافتراس لن تنتهي الا برجوعه الى بابل القديمة عسى ان تهدأ روحه وتستكين.

( رمز الشجرة ) #

(( مستشرف للرؤيا ، طائر فوق الغيوم ، كطائر سنونو مهاجر عدت الى بلدي بعد ثلاثين عاما من الغربة قضيتها متنقلا بين لندن و بورتسموث. عدت الى قريتي لم اتعرف على مكان بيتنا او مكان مدرستي . فقد شيدتُ مكانها عمارات سكنية  كثيرة تناطح السحاب. الشوارع الترابية اختفت ، فوجدت بدلها طرقاً معبدة  على جانبيها المحلات التجارية التي تحمل اسماء لماركات عالمية . كانت الاجهزة الحديثة الخاصة بالحاسوب و الاتصالات و البرمجيات ، قد غزت كل اسواق القرية. لم تعد قرية صغيرة ، فقد اصبح مكاناً يقصده السياح من كل انحاء العالم وخاصة في فصل الشتاء. ليستمتعوا برحلات نهرية عبر شط العرب، الذي تم تخليصه من كل السفن و الزوارق الغارقة. فاصبح ماء النهر صافياً، بعد ما تم انشاء شبكات عملاقة للصرف الصحي تجنب النهر الروائح الكريهة والمياه الثقيلة والفاسدة ، التي كانت تلقى فيه في الماضي . رأيت السد العملاق الذي حلمت به أيام شبابي. اصبح يُزوِّد الانهار الصغيرة في أبي الخصيب بالمياه العذبة ، التي يتم تصفيتها من الأملاح في محطات تصفية اقامتها شركات عالمية عملاقة . كما اصبح السد يولد الطاقة الكهربائية الرخيصة الى نصف سكان البصرة ، أما النصف الاخر فكانت تتكفل به الالواح الشمسية التي تم نصبها فوق كل بناية وكل دار في البصرة . متخذين شعار ( شمسنا لنا ) ، لتحويل الطاقة الشمسية التي تنعم بها المدينة طيلة أيام السنة بوفرة هائلة الى طاقة كهربائية، صديقة للبيئة. كان السد يقع عند جزيرة أم الرصاص ، التي تم تغيير اسمها الذي ورثته منذ ان استخدمها البريطانيون كمستودع للسلاح اثناء غزوهم للبلاد قبل مِئة عام. فقد اضحى اسمها (أم النخيل) بعد ان غُرست بها خمسة ملايين نخلة بعدد سكان مدينة البصرة الحديثة . وخُصص لكل مواطن حصته من ريع تصدير تمورها سنويا . كتشجيع للمواطنين على الاعتناء بالبيئة وعدم رمي النفايات الا بعد فرزها وتسليمها الى شركة تدوير النفايات، التي قامت الشركة بكري كل الانهار على حسابها الخاص لتستفيد من النفايات و تخلص الناس من السرطانات التي كانت تصيبهم بسبب الروائح النتنة. عادت البصرة بندقية الشرق، التي يؤمها ملايين السياح من داخل وخارج العراق سنويا. ليتفرجوا على جمال نخيلها حينما يشاهدون قممه من الاعلى، عند مرورهم (بالتلفريك ) ، المنطلق من جزيرة ( أم النخيل) مرورا بقرية (جرف الخير) التي كان اسمها سابقا جرف الملح . حيث سيشاهدون اكبر معمل لا نتاج الملح ، المدعم بالأملاح البحرية . مجاورا لمعمل عملاق لكبس التمور و تعليبها. محاطا بغابة من اشجار السدر والعنب والتين التي اشتهرت بها بساتين القرية في الماضي .و التي تم تطويقها بغابة من اشجار الكاليتوس العملاقة كمصدات للغبار و لغازات الكاربون المنبعثة من ابار النفط في مجنون. كما سيشاهدون مستشفى حديثاً ، يحوي مصنعا لصناعة الاطراف الصناعية و اجهزة تأهيل المعوقين . يجاوره قاعات للتأهيل الفيزيائي والرياضي. حيث يتدرب فيه المُعاقون من اهل القرية كبارا و صغارا، نساءً و رجالا و يعاد تأهليهم للعمل في كل القطاعات الصناعية والزراعية التي تم استحداثها لتعويضهم عن سنوات الضياع التي اكلتها الحروب من اعمارهم.

كان (التلفريك ) يسير في رحلة في بلاد النازفين ، التي تم تفسير اسمها لاحقا ، بنزيف لشريان دماء العشاق الشهداء و شريان الخير و الاخاء. اللذان اتحدا في نهاية رحلة التلفريك عند شجرة آدم. اينعت الشجرة من جديد و اخضرت اغصانها المتيبسة. لم ينفك المحبون و العاشقون لها من طلي جسدها بالحناء تعبيرا عن أمتنناهم لأمهم التي غرسها ابيهم ادم وصلى عندها نبي الله ابراهيم و ورواها الخضر عليه السلام بماء الحياة ، فعادت لتخضر من جديد. هكذا كانت عقائدهم الشعبية بهذا الشجرة ، التي تكونت حولها الاساطير. مما جعل الناس يسكنون قربها و شجع الحكومات على انشاء الحدائق والفنادق والمطاعم حولها . وهكذا ترون انها بُعثت للحياة من جديد ؛ بعد موتها ؛ حينما قصفتها المدفعية العثمانية ؛ التي استهدفت احدى السفن الحربية البريطانية التي قامت بربط حبالها بجذعها اثناء الحملة البحرية البريطانية عبر شط العرب وصولا الى بغداد ؛ فتيبس جذعها . و اخذ السكان يستخدمون خشبها للتدفئة و الطبخ أيام الحصار أيام كان وصول  الوقود والكهرباء نادرا الى هذه الأصقاع . فشاركتهم الشجرة همومهم؛ اعطتهم من روحها و جسدها ؛ كانت دثارا لهم بأوراقها و اغصانها ، لم يتبقَ لها من شيءٍ سوى جذع صغير، احتوى قلبها الكبير . كانت أم الشعب التي عاد ابناؤها الى الحياة حينما استعادت شبابها. وكما ترون اليوم ، فقد رجعت البعثات السياحية التي تضم جميلات الشرق والغرب ، ليتصورن بقربها و يستمتعن بحمام شمسي رائق  بقربها . متأملات في غابات النخيل الممتدة على ضفتي موقع الجماع المقدس لدجلة و الفرات والذي انتج محبوبهم المدلل شط العرب ! )).

هكذا انهى سعيد البصري  حديثه الى اعضاء البعثة السياحية القادمة من مدينة الضباب . حيث قام بتعريفهم بمعالم مدينته الحديثة. مقررا زيارة قريته الجميلة ؛ القديمة – الجديدة ؛ في اليوم التالي من الرحلة.

في اليوم التالي ، حين ذهب اعضاء البعثة برفقة سعيد البصري الى قريته بعد مرور سنزات طويلة على فراقها. لم يتذكر طرقها و محل بيوتها ، فقد كانت المباني الحديثة محل دور قريته القديمة. كما لم يتعرف عليه احداً من اهلها. التقى بصديقه القديم ، سلم عليه. حدق الصديق القديم في وجهه المشوه ، لم يتعرف عليه .

خاطبه سعيد : (رزوقي.. ،هل نسيت أيام كنا نجمع  الفراشات الصغيرة و نحشرها في علب الكبريت؟ ، ما  الذي حل بقريتنا اين اختفى اهلها وبساتينها الجميلة ؟ ومَن هؤلاء الناس الاغراب والبنايات المزدحمة والطرق المليئة بالإعلانات التجارية و الضوضاء .. اين ذهبت الحقول الهادئة ؟ اين الخالة أم أمل و أستاذنا بصير القرية ؟)

لم يعانقه ويبكي ، كما تخيله. فلم يكن مهتما لرؤيته كثيرا ، فقد كان مشغولا بتفحص جهاز نقاله الذكي ، الذي تسلم رسالة من الشريحة البيولوجية المزروعة في جسده تنبيه بضرورة التوجه فورا لتلقي جرعة العلاج في مستشفى القرية  لفاقدي الذاكرة . تركه سعيد وذهب للبحث عن شجرة نخيل قديمة  كانت منبطحة كجسرٍ صغير فوق  نهر صغير متفرع من نهر جاسم ، وقف أمام جذعها المتيبس وقد جف الماء في النهر القديم فسقط في هوة حلم جديد من أحلام يقظته ….

حلم يقظة / ( الارواح تبكي ليلاً في القرية الكونية ) بدون تاريخ اجندة #

(( تذكرت طفولتي في  قرية جرف الملح  ، حين كنت ارتدي ثوباً ابيض و اجري قرب ضفة نهر صغير متفرع من نهر جاسم كان يفصلنا عن الجهة الاخرى من ارض جدي ، حيث كانت النخلة المنبطحة وقد تفرع من منتصف جذعها نخلة اخرى و كأنها ولدتها . كنت اصل الى طرفها فأصير واقفا في منتصف النهير وحولي الماء دون ان ابتل ، سمعت صوت ابي يطلب مني ان ارجع قبل ان يختل توازني واسقط في النهر ، لم اكن اعرف السباحة ، كان القمر تحت جذع النخلة يبحر في الماء بصمت و حزن باكيا عليّ بصمت ، تسيل دموعه فيرتفع المد في النهر … نظرت في ماء النهر الصافي فرأيت بياض لحيتي  قد غزا و جهي المتجعد ..و استحال بريق وبراءة عينيّ الى حزنٍ مشتت النظرات …كانت خطواتي بطيئة كرجل في السبعين من العمر .. تلمست جسمي ..نعم لقد مر الزمن خلال تجويف هذه الاعضاء المتعبة ، التي حملتني بوهن كل هذه السنين .. اه ما افظع و اسرع الزمن .. تركت النهر الذي أمسى بلا ماء وذهبت الى البناية التي سكنتها خالتي أم أمل ،فهي الوحيدة من اقاربي المتبقية في القرية . فتحت لي الباب . كانت ترتدي السواد . جلست يلفها حزن عميق . لم اسألها عن زوجها فقد عرفت من الجيران الذين ارشدوني الى شقتها انه مات اثناء محاولته بيع الالغام الى بعض المجموعات الارهابية. فقد طارده عناصر حرس الحدود فسقطت حاوية الالغام على قدمه . ولم يجدوا من جسده الا قطعاً صغيرة قاموا بجمعها وسلموها الى أم أمل لتدفنها قرب باب دارهم القديمة . سألتها عن ابنتها الصغيرة أمل ، التي ولدت بعد ثلاث سنوات من مغادرتي القرية . اجابتني انها توفيت بعد اصابتها بسرطان الرئة . فقد خضعت للعلاجات الكيمياوية  لمدة سنيتن . فقدتْ خلالها كل نضارتها . تساقط شعرها و اسنانها و اخيرا توفيت على اثر فشل كلوي حاد اصبها في آخر أيامها . صمتت طويلا . سألتني اخيرا : ( ما الذي عاد بك الى قريتنا ، لن تجد احداً يتذكرك ، الكل مشغول هذه الأيام بهذه الاختراعات الحديثة و الحصول عليها . الحروب لازالت مستمرة لكن الاسلحة اختلفت ، صرنا نموت  بالأمراض الغامضة دون ان يبكي احد علينا . احيانا لا نبكي على انفسنا ! حياتنا جميلة لكنها خاوية من الداخل ، صرنا مثل الآلات التي تعمل دون كلل ، و دون هدف ، الا لكي تستمر الطاقة تصل لأجسادهم . ومتى ما تعطلت ، سيتم رميها و استبدالها بأخرى جديدة.) قلت لها : ( أنتِ ايضاً تغيرتِ ، فلم تكوني بمثل هذا الوعي والثقافة ؟ اين تعلمتِ كل هذه الافكار و المصطلحات ؟) سخرتْ مني وقالت : ( انظر الى هذا اللوح الذكي في يدي انه يحوي معلومات اكثر مني ، لكنه مثلي فاقد للروح . بعد وفاة ابنتي أمل و ابيها الذي تشوهت سمعته بعد موته . كانه لم يكن ذلك الانسان الطيب المضحي. فقد اصبح  يُوصف بانه من انصار المجاميع الارهابية .  فماتت روحي ، وبقيت كجسدٍ لنملة عاملة في (مستعمرة ) مصنع كبير لإنتاج الاطراف الصناعية . يعطونها اخر الشهر مبلغا من المال ، لتصرفه قبل  استلامه   ، لتسديد ايجار شقتها و فواتير الماء والكهرباء و الاتصالات و اجور النقل و مشتريات الهايبر ماركت ! اعمل اثنتي عشرة ساعة  كأملة في المصنع و اقضي مثلها وحيدة في عزلتي بهذه البناية التي لا يعرف اصحاب شققها احدهم الاخر . فكل شخص جاء من مدينة مختلفة وله قصصه وهمومه المختلفة . لم يعد من معنى لكلمة (جيراننا ) ! اصبحنا نسميهم الساكنين في طابقنا او اعلى او اسفل من طابقنا . لا احد يتجول ليلاً فالمدن السكنية تُغلق  عند الساعة العاشرة مساءً .فلا يُسمح سوى للمناطق السياحية بالسهر حتى ساعات الصباح . استسلم لكوابيسي الليلية، التي يزورني فيها ابو أمل حاملا حاوية الغام ، يقوم بجمع اعضاء جسده المتفرق فيها ! وتزورني أمل  ممسكة بضفائرها و اسنانها المتساقطة . و تزورني أمك المرحومة بجسدها المحروق بالنّابالم ، ومن غيرهم سيزورني ؟ ربما انت اخرهم ، قد جئت اليوم تزورني بوجهك المتجعد من اثر الحروق. هل سأتمكن ان انسى وجهك بعد اليوم ؟)

و دعتني عند الباب كوداع اخير. فلم تكن تتوقع ان ازورها مرة اخرى. وربما هي ايضا لا تحب زيارات ارواح الراحلين وحكاياتهم الاليمة . ارشدتني الى شقة بصير القرية في الطابق الثاني تحت الارض عند كراج البناية قائلة : ( لن يتوقع زيارتك . لقد فقد قدرته على معرفة حوادث المستقبل ومعرفة اسرار زائريه ولم تعد تقصده نساء القرية اذا لم يرزقن بالأطفال، بل يذهبن لزيارة عيادات  التخصيب الصناعي و صناعة اطفال الانابيب ! ) .

حين طرقت باب شقة بصير القرية كان قلبي يخفق بشدة . لم اكن اعرف أي رجل هو الان ، وكيف سيستقبل تلميذه النجيب بعد كل تلك السنين .من المؤكد انه اصبح طاعناً في السن . سبع و سبعون سنة عمره الان ، قضى منها اكثر من خمسٍ وخمسين سنة وهو كفيف البصر . .طرقت الباب كثيرا لم يفتح احد . اخشى انه قد سقط في غيبوبة و لا احد بقربه ليسعفه . او لعله قد دخل في حلم طويل من أحلام يقظته. او ربما هو الان يقلب في كتابه الاثير متلمسا  بأصابعه حروف المحو و مستشرفا لرؤى الماضي و المستقبل التي لن تتحقق ، وربما ستتحقق لو بذلنا جهدا اكبر في معرفة حقيقة انفسنا و كففنا عن سلبيتنا  في التعامل مع أحلامنا الكونية . كففت عن الطرق . جعلت أُذُني على الباب عسى ان  اسمع شيئاً. لا شيء تماما . الصمت لا  يقطعه سوى اصوات السيارات الداخلة او الخارجة من كراج البناية . تراجعت خطوات الى الوراء كان هناك ممر صغير قرب الشقة ينتهي بفسحة صغيرة ( منور ) تستخدم  كفسحة للتهوية و لخدمات البناية فحسب؛ كما اعتقدت وقتها ؛ لكنني حدقت بها لاكتشف وجود شجرة يابسة بجانبها جسد لرجلٍ يجثو عندها . اسرعت لأساعده على الوقوف . لم اتمكن من حمله . جثوت أمامه . فاذا هو من ابحث عنه . قلت له : ( لماذا انت جالس هنا ؟). لم يجبني . كان جسده متخشبا كانه جزءا من الشجرة . كانت الشجرة منخورة بحشرة الارضة و هو مسمك بها بكلتا يديه . احسست انه منخور من الداخل . وقد سالت دمعة من عينيه على خديه و في حضنه استقرَّ كتاب قديم . قلت له : ( استيقظ… استيقظ ).  اجابني بصعوبة : ( لا تنسَ ان البشر نيام فاذا ماتوا استيقظوا . انت هو النائم  ، أما انا فقد استيقظت الان !) اشار الى الكتاب قائلا : ( هو لك الان ، لقد انتظرتك طويلا. والان دعني. فلقد اكتملتْ مهمتي الارضية !)…… ))

استيقظ سعيد من حلمه الطويل على صوت رفاقه في الرحلة : ( حان وقت مغادرتنا لهذه القرية الجميلة. نحن على يقين اننا سنراها اجمل في زياراتنا المقبلة ). وافقهم سعيد بصوتٍ متعبٍ  : ( ليس عندي شك !). 

 

بعد ان اصبح الوصول الى الموقع ؛ من قبل المتصفحين الجدد ؛عبر البحث في الشبكة الدولية؛ متعسرا في اغلب الاوقات ، لوجود مواقع كثيرة بأسماء نطاق ( دومين ) مشابه جدا. تم تضمينها بمحتويات مزيفة. فقد قامت بأنشائها العديد من الجهات غير الراغبة في اطلاع الناس على الحقيقة . لذا فقد اقترح عليّ الكثير من الاصدقاء ، ان اضيف كل يوم اسما جديدا. و اقوم بنشره فيصعب على المتصديين لإصدار اسماء مزيفة من تحديد اسم الموقع او حجبه من قبل الحكومات العميقة.

و ايمانا مني بان الموقع اصبح ملكا للمتابعين فقد استحدث صفحة جديدة اسميتها: ( استفتاء اسم الموقع ).

وطلبت تقديم مقترحات بالاسم الجديد ، فوصلني العديد منها. بانتظار زيارتكم الصفحة ، واضافة اسماء نطاقٍ جديدة، لاعتمادها. او التصويت على ما تم اقتراحه مسبقا من قبل المتفاعلين.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *