الابحار الثالث – العقل المحتل

مدونة مسعود كاكا علي / 25 ، ايار ، 2014 / بغداد

حين وصلت الى لندن في نهاية 2002 ، كان الجو ضبابيا ، ليس في سماء لندن فحسب بل في دماغي ، و احسب انه كذلك في العالم اجمع . أمريكا انتهت من حرب افغانستان و تستعد بجدية   لحرب بلادي . هكذا فهمت من السياسيين المعارضين العراقيين المقيمين في لندن . ورغم اني لا اثق بتقديراتهم كثيرا . الا ان عملي آنذاك كمستشار لشركة تعمل في مجال صناعة الانابيب المعدنية الضخمة و البناء باستخدام الهياكل الحديدية ، جعلني مجبرا على متابعة التطورات السياسية و ما يجري من كلأم دهاليز و كواليس السياسة.

كما كان عليّ ان اتابع علاجي كجزء من الايفاء بمتطلبات العقد مع الشركة ، وهذا ما كنت احسبه ميزة حسنة اضافية لعملي معهم . فعيادة الطبيب الجديد كانت لا تبعد عن الشقة التي استأجرتها لي الشركة سوى عشر دقائق مشيا. ولم اعلم أكان هذا محض صدفة ايضا أم أمر مخطط له من قبل الشركة ، لتقليل مصاريف النقل وتوفير الوقت علي . فقد الزمني الطبيب بزيارته لثلاث مرات اسبوعيا .كانت عيادته مختلفة عن عيادة سابقه في مدينة كيرونا . فقد كانت تبدو كمختبر طبي حديث او كأستوديو للتسجيلات الصوتية لوجود اجهزة طبية للفحص و شاشات للمراقبة و ادوات تسجيل و سماعات متعددة. لم اشعر بتلك الالفة التي اعتدتها مع السيد جودي. حيث بدا لي هذا الطبيب ؛ اسمه اوبرمان ؛ راغبا في ثقب جمجمتي و ازالة كل الطبقات الجلدية للتعرف على سبب هذه الكوابيس الغريبة المتداخلة والمنتظمة . كان يريد دراسة سبب ادراكي داخل الحلم باني احلم و هو ما كان يسميه بالحلم الواعي.

سالته مرة هل أُشكِّل له حالة فريدة ومهمة من الناحية العلمية او الاكاديمية . اجابني على نحو غامض ( ان مصممي الأحلام كثيرون في كل المجتمعات. لكنك تمثل حالة فريدة لكون الاسباب التي تثير أحلامك ذات رؤيا عالمية !) لم اعرف ما الذي قصده بالرؤيا العالمية. كان يبدو انه درس كل كلمة دونتها حول كوابيسي السابقة التي كان يسميها كوابيس كيرونا . في اول جلسة علاجية سألني ان كنت قد تعرّضتُ لحادثة غرق في حياتي . فأجبته إنّي تعرّضتُ لها اثناء تهريبي من تركيا الى اليونان. فقد انقلب الزورق المطاطي الذي كان يقلني مع بضع وعشرين مهاجراً . و تعرضت للغرق نظرا لقوة الأمواج في ليلتها و لكن عناية الله انقذتني. استوقفته عبارة عناية الله وسألني :

– هل تؤمن حقا بقدرة الله على انقاذك ؟

– نعم اؤمن بذلك بالتأكيد.

– اذن لماذا هربت من بلدك ولم تبقَ لتنقذ حبيبتك من الاختطاف.

كان سؤاله صادماً لي. لم تكن بداية جيدة معه ، احسست أنّه لا يملك الحق بتقييمه لموقفي، فهو لا يعرف انها من طائفة لها طقوسها التي لا تبيح بالزواج من الطوائف الاخرى. حاولت ان اشرح له كل ذلك. لكنه كان اشد شراسة حين واجهني بنظرات اتهام و شكٍ.

– هل الحب مرتبط بالدين أم بقلبك ، انت ؟

كان سؤالا فلسفياً اكثر منه طبياً. حاولت ان أُوضَّح له اني لا احب الجدال بهذه القضايا. فأجبته :-

– ظروف كل انسان تتحكم بمصير حياته.

– غير صحيح. الانسان يستطيع التحكم بحياته اذا استطاع ان يطور قدراته. نحن سوف نطور قدراتك في التحكم بأحلامك. و نعيد ترتيب سرد الاحداث حتى تصل لنهايتها السعيدة . وبعدها سوف ترى انك من سيتحكم بحياته ، و ليس الظروف او الاشياء غير المنطقية. 

في الجلسات التالية ، كان الطبيب يطلب مني استلقي على سرير طبي متحرك ؛ داخل جهاز يقوم بمسح ضوئي للمخ ؛ يسمح بقياس ترددات الدماغ اثناء النوم و بدء الأحلام الواعية . كما زودني بنظارة سوداء سميكة البسها تقوم بأرسال اشارات ضوئية للمخ اثناء النوم و طلب مني تحريك عيني اذا احسست في النوم بوصول تلك الاشارات الضوئية . وقد استجبت بصورة واضحة كما اخبرني لاحقا .وبدأت بتسجيل أحلامي الواعية في كل زيارة . كان يعطيني حقنة قال انها تساعدني على النوم العميق . و فعلا كنت اغط في نوم عميق كلما زرته رغم اني كنت لا اشعر بالنعاس في احيان كثيرة . قال انه عليّ ان اساعده للوصول الى الجانب اللاواعي من عقلي. لفصله عن الجانب الواعي ، و البدء بتقسيم ذاكرتي الى أقسام منفصلة للتخلص من الذكريات السيئة و استبدالها بذكريات جميلة و ايجابية يتم خزنها في اللاوعي الجديد. بدت لي تلك الفكرة اشبه بعملية تزييف للذاكرة وخلق ذاكرة وهمية محل القديمة . اردت الاعراض ، لكنه قال لي :

– سوف تجد انك اصبحت تتمتع بقدرات خاصة للعقل المبدع ، والذي سيؤثر في مستقبلك المهني والشخصي. يجب ان تتطور يا سيد مسعود، فانت شخص له مستقبل لأمع.

نصحني ان اذهب الى معهد خاص للدراسات الدولية يختص بإعداد القادة الاقتصاديين. سيكون بإمكاني ان اطور قابليتي في المجالات الاقتصادية. لم اكن على يقين ان لدي الوقت الكافي للتواصل معهم . لكن شركتي  قامت بأرسالي بدورة تدريبية الى ذلك المعهد تستمر ستة اشهر. و يصرف لي خلالها مخصصات دراسية ، اضافة الى الراتب الشهري. وقالوا لي انهم سوف يمنحونني شهادة علمية تفيد باني احمل شهادة دكتوراه فخرية  في الاقتصاد الدولي اذا اثبتُّ جدارتي العلمية . كان كلُّ شيءٍ معدّاً لكي اصل الى ما خططوا له مسبقا ، هذا ما شعرت به وقتها.

طالبني الاستاذ في المعهد بإعداد بحث يستعرض الفرص الاستثمارية الدولية المستقبلية في العراق . كانت مكتبة المعهد تعج بالكثير من الطلاب و الباحثين . المصادر كثيرة فيما يخص الاقتصاد الشرق اوسطي والعراقي لكن فيما يختص بالبحوث و الرؤى المستقبلية فقد كانت نادرة. كنت جالسا في فترة ما بعد الظهيرة في زاويةٍ من زوايا احدى قاعات المكتبة. جاءت فتاة حسناء و جلست قبالتي و ابتسمت. اردتُ ان اتجنب النظر اليها في البدء، فقد كنت خجولا أمام النساء بحكم نشأتي في الطفولة. لكن ابتسامتها و جاذبيتها دعتني لاختلاس النظر اليها رغما عني. مدت يدها الي وقالت : ( اسمي لورا ، اعمل في نفس الشركة التي ارسلتك للدراسة في المعهد ، انا متخصصة بالدراسات الدولية. اذا تتفضل بقبول مساعدتي، سأرشدك لمجموعة من المصادر الجيدة، ستوفر عليك الجهد و الوقت ). شكرتها و قبلت مساعدتها. فقامت بدعوتي على الفور للذهاب معها الى شقتها لكي تسلِّم لِيَ المصادر المحفوظة في اقراص ليزرية في شقتها .فاجأتني بدعوتها ، لكن لم يكن أمامي سوى قبولها .

حين دخلنا شقتها ارتني العديد من الصور القديمة لأفراد من عائلتها .  فقد كانت لورا تنتمي الى احدى العائلات العريقة  التي هاجرت من المانيا بعد الحرب العالمية الثانية الى بريطانيا ، وعمل اغلب افرادها في القطاع المالي و المصرفي. كانت فتاة متحررة تعيش بمفردها تصغرني بثلاثة أعوام ، لها شعر اشقر و بشرة بيضاء ثلجية و جسم رشيق ، لكنه مفعم بالأنوثة التي لا تخفيها ملابسها الجريئة . قالت لي تصرف كأنك في بيتك. طلبت منها الاقراص الليزرية. ابتسمت وقالت دعني أُظهر لك شئيا من الكرم ، تفضل معي لنعد عشاءً خفيفا. بعد ان انتهينا من تناول الطعام. اخذت تحدثني عن مزايا و عيوب شخصيتي كأنها تعرفني منذ سنين قالت : ( اعلم انك طموح جدا ، لكنك خجول و تعاني من اضطرابات نفسية قديمة ، دعني اساعدك في نسيان كل شيء ) .

– كيف ستساعديني ؟

– لا عليك ، فقط سلمني نفسك .. وسوف اقوم بكل شيء .. ستكون سعيدا معي ، لا تقلق !

قامت من كرسيها و قبلتني و سحبتني من يدي الى فراشها .

 

اسهمت لورا في مساعدتي في اعداد البحوث  و استضافتني في شقتها حتى الصباح . استقرت حالتي  النفسية و تركتني الكوابيس ، فقد كان الطبيب يستعمل التنويم المغناطيسي ليوحي لي بأحلام سعيدة. اختفت الطائرات و اخذت الطيور تظهر محلها ، ولم تعد الوحوش تطاردني بل كان يظهر محلهم رجال ببدلات انيقة ، يمسكون ملفات كثيرة و يطلبون توقيعي على اوراق كثيرة يدَّعون انها مهمة جدا ، ينادوني دائما بالمدير أو الرئيس . كنت رجلا مهما في كل أحلامي التي يدعي الطبيب ان  دماغي اخذ بالسيطرة عليها وتوجيهها . لكن اشد ما كان يؤلمني اني لم اعد اشاهد أمي او ماما زكية في أحلامي و حين كان وجه ( أمنية ) يظهر فجأةً ، كانت ملامحه  تختفي بذات السرعة و تظهر بدلها ملامح لورا ، بشعرها الاشقر و بشرتها البيضاء الثلجية و عيونها الشبقة و شفتيها التي تدعوني لتقبيلها.

استدعاني مدير الشركة بعد انتهاء فترة الدراسة . طلب مني تقريرا عن اهم البحوث التي شاركت بها . جلست مع لورا مساءً في شقتها نتباحث و نكتب التقرير المطلوب . بذلنا جهدا كبيرا ، بعدها استلقينا على الفراش ، وضعت يديها حول وجهي وقالت :

– عزيزي ، هل تفكر في العودة الى وطنك ؟

– لا اعرف. فقد غادرته منذ زمن طويل. لا اعتقد ان احداً سوف يهتم لعودتي. في الحقيقة لا احدَ ينتظر عودتي هناك. ربما انتِ كل ما لدي في هذا العالم.

– اقدر حبك و اهتمامك بي ، لكن وطنك يحتاج الى رجال بمثل كفاءتك و شجاعتك.

قبلتني من جديد وقالت :

– سوف اُعلم مديرنا بانك موافق على الانضمام لفريق عملنا في العراق. فلقد افتتحوا فرعا لشركتنا هناك. وانا على يقين بانك سوف تكون مفيدا للجميع. بالمناسبة ، كدت ان انسى ، سأكون برفقتك لا تخشَ شيئا.

 

قبل سفرنا الى العراق كان يتوجَّب علي ّ تقديم التقرير الذي كتبته مع لورا ليطلع عليه مدير الشركة الاقليمي لشمال أوربا. اخذت شركاتنا تستحوذ على الكثير من الشركات المحلية للدول النامية، حتى اصبحت اخطبوطاً عالمياً، له اذرع في قارات العالم الست.

قرأتُ نتائج التقرير أمام اللجنة التي سوف تقوم بإعداد ملف عملنا في العراق :

– يتضح مما سبق، بأن عمل شركاتنا يهدف الى مساعدة الحكومات المحلية لدول العالم الثالث  في التخلص من الترهل و الفساد الوظيفي و انحسار القدرة على المنافسة الدولية. وذلك بأقناع الحكومات بالقيام بخصخصة الشركات والمعامل الحكومية ببيعها الى شركات دولية. و كذلك تخفيض الضرائب على المنتجات المستوردة لا دنى حد ممكن. كما نساعدهم في الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و المصارف العالمية الاخرى. نشجعهم على فتح اسواق عالمية للبيع بالتجزئة و فتح المجالات للماركات العالمية في مجالات الاجهزة الكهربائية و الملابس و الاغذية وكل المواد الاستهلاكية .لضمان دخولنا الاسواق المحلية بدون اجراءات جمركية تتعارض مع مبادئ التجارة الدولية. اخيرا ، حث الحكومات على الاسراع في منح تراخيص التنقيب عن النفط والغاز والمعادن الاخرى  للشركات العالمية المتخصصة وربط خطوط النقل الدولية لتسهيل التصدير الى دول العالم كافة .

قام الحضور بالتصفيق ، تبادلتُ نظراتٍ  ذات مغزىً مع لورا التي كانت تقف خلف  اللجنة ، كانت متحمسة جدا و تصفق بحرارة . قدَّم الجميع التهاني لي  بعد حصولي على منصب ممثل فرع شمال أوربا في العراق و انضمامي الى فريق عمل متخصص يضم العديد من ممثلي فروع الشركة الاخرى في أمريكا و روسيا و شرق اسيا و استراليا .

وصلت مع لورا الى اربيل في نهاية حزيران 2004 . كانت الحكومة العراقية تحتفل بتسلم السلطة من الحاكم العسكري الأمريكي بريمر. كنت مفعما بالأمل ان اغير واقع شعبي المرير الى مستقبل زاهر. اخذت بالتجوال مع فريق العمل في مختلف المدن العراقية . كنت ارى التخلف و البؤس في وجوه الناس. كانت ذاكرتي تقوم بمقارنات مستمرة بين ما شاهدته في مدن السويد و بريطانيا حيث  الرفاهية التي ينعم بها السكان هناك ، وبين ما اراه من تخلف و شقاء هنا .. طفلة تمشي مسافة طويلة في منطقة نائية لتصل الى مدرستها الطينية حيث لا تجد كرسياً لتجلس عليه ، فتجلس على الارض .. مشاعل نيران ابار النفط ليست  بعيدة عن مدرستها …امرأة كبيرة بالعمر تبيع المناديل في تقاطع الشوارع … ناديتها لأعطيها نقوداً …

– (استاذ انا ما استجدي ، انا ابيع كلينس …فدوة اشتري مني … )

– (شنو اسمج ؟)

– أم صابرين.

– ( أم صابرين ، قبليها مني.. الله يخليج … انا مثل اخوج الزغير ).

لم تأخذ مني شيئا. تركتني ومضت …

 

كانت لورا تصور بكامرتها الاحترافية الكثير من هذه الصور ، و تبدأ بالتأسف و تكرار القول مرار :

– مسعود واجبك وواجبنا ان نغير حال هؤلاء الناس المساكين. 

كنت احاول ان اكون متفائلا، غير أنّ العَبرة و الحسرة تخنق قلبي و تعقد لساني فلا ابوح الا بكلمات تخرج متحشرجة  :

– بالتأكيد سنعمل على هذا ، سنعمل.

قضيت السنوات العشر التالية ، متنقلا مع لورا وفريق عملنا بين لندن ومدن العراق المختلفة. استطعنا خلالها ان نفتح المجال لتكوين قاعدة استثمارية رائعة لشركتنا مع شركات وشخصيات محلية اخرى. حصلنا على عقود تجارية عديدة في مجال عملنا ومجالات اخرى لم تكن ضمن اختصاصنا. كما استثمرنا في مجال النفط في جنوب وشمال العراق . كانت الاستثمارات مربحة جدا فقد كانت العقود الاحتكارية تمتد لثلاثين سنة. اشتملت على عقود توريد و تنفيذ و استشارات و توظيف و خدمات ما بعد البيع اي كنا نربح بصورة مضاعفة . كنا نستثمر في  أماكن  الخطر او ما يوصف أمنيّاً بالمناطق الساخنة لتوفير عقود الحماية للشركات الأمنية الاجنبية فقد كانت مبالغ التأمين عالية جدا مما جعل الارباح تكون مضاعفة . كل المصاريف كانت تدفع لنا من الحكومة اضعافا لما كنا نصرفه بالفعل. كانت رواتب فريقنا مع كافة العمال الاجانب في الشركات الاخرى قد تجاوزت خمسة اضعاف ما نستلمه في أوربا او أمريكا !

كانت لورا تبعث بالتقارير تلو التقارير الى الشركة و كنت متفرغا لترتيب اللقاءات بين المستثمرين و المسؤولين عن اتخاذ القرار . واجهتنا صعوبات كثيرة فقد كنت احاول ان اقنع الحكومة بالاستثمار في المجالات المهمة المصاحبة لإنتاج النفط مثل انتاج و توزيع الكهرباء و تحلية المياه و تدوير النفايات و أستخدمها في الصناعات الكيمياوية لتقليل الكلف الخاصة بالإنتاج النفطي و لتحصيل فائض ربح يمكن ان يسد النقص في خدمات التعليم والصحة و غيرها من الخدمات التي يعاني الشعب من نقصها و عدم جودتها . لكننا واجهنا صعوبات جمة ، فقد كانت الكهرباء يتم شراؤها من خارج البلاد ولا يتم انشاء محطات  انتاج مناسبة لأسباب غامضة . فأما ان تكون المشاريع صغيرة ، او تكون المحطات من نوع الديزل التي لا تكون مناسبة اقتصاديا و فنيا . كانوا يهملون صيانة المحطات القديمة ، و يتباطؤون في التعاقد لأنشاء اخرى جديدة ، بالرغم من  معاناة الناس و غضبهم . 

لم يكن الاهمال المتعمد مقتصرا على مشاريع الطاقة و الصناعات ، بل تفاقم الأمر حتى اصبح مضرا بالبيئة. فقد تراكمت النفايات البلاستيكية و الورقية و المعدنية و فضلات الاطعمة الفاسدة في الانهر و الشوارع و المساحات الزراعية المهجورة. فقامت الحكومة بأنشاء مناطق معزولة سُمِّيتْ بالطمر الصحي. لكنها لم تكن تحمل من الصحة الا الاسم ! فهي ملوثة للبيئة بفضل تجمع الحشرات و القوارض و تنبعث منها روائح كريهة و غازات سأمة. فبعد احراقها من قبل البلدية ، ترتفع منها اعمدة مسودة لدخانٍ كثيف. وفي احيان اخرى يتم بيع حاوية الازبال بخمسة الاف دينار الى ما يسمى( بالعتاكة) وهم مجموعة من الرجال المعدمين و النساء والاطفال الذين امتهنوا جمع الفافون و العلب المعدنية و كل ما يمكن اعادة بيعه لغرض تدويره الى مواد صناعية مفيدة . و كل ذلك يتم بطريقة عشوائية ، لا تلتزم بمعايير السلامة الصحية او المهنية . فقمت بتقديم مقترح لاستثمار النفايات من قبل احدى الشركات الاجنبية مقابل دفع مبلغ مالي للحكومة وتخليص سكان القرى التي تم اعتماد مناطقهم كمناطق ( للطمر اللاصحي ). ومنها قريتان قمت بزيارتهما مع صديقي سعيد البصري . هما قرية (أم الذبان) التي اشتهرت بهذا الاسم لكثرة الذباب فيها ، و قرية البتران التي نشأت على انقاض قرية جرف الملح العريقة. لكن الحكومة رفضت طلب الاستثمار الذي قدمته باسم الشركة الاجنبية بحجة ان الازبال و النفايات هي (ثروة وطنية) لا يمكن التفريط بها !

 طلبت من لورا ان تكتب كل ذلك في تقريرها ، لكنّ ردها كان صادما لي :

– دعهم يتعفنون ، سوف يحتاجون لنا ، حين يثور الناس عليهم ، و حينها سوف نفرض شروطنا عليهم !

– قد يتطلب ذلك وقتا طويلا.

– عامل الوقت يقف في صفنا دوماً ، لا تقلق !

 

حاولت ان اكون فعالا في مساعدة بعض المنظمات الدولية التي تتبرع  في انشاء محطات مياه الشرب. و على الرغم من ارتباك الوضع الأمني وازدياد وحشية التفجيرات التي يسقط  ضحيتها العشرات من الابرياء يوميا ، فقد كنت ازور العديد من المدن طالبا من المسؤولين استقبال المتبرعين لكي يتفقوا معهم على المخططات المطلوبة . كانوا يطلبون مني اوراق رسمية كثيرة للموافقة على مجرد استقبالهم. كنت اشعر بالحيرة و الاستغراب لماذا يفوِّتون الفرصة على مواطنيهم لشرب الماء النظيف؟ حتى باح لي احد المسؤولين الأمنيين قائلا :

– اهلنا تعودوا على استخدام المياه الملوثة. لماذا تتعب نفسك ! اذا لم احصل على هدية منكم فلن اسمح لكم بزيارة مدينتنا. الناس الاعلى مني تريد حصتها ايضا ، يجب ان تفهم هذا الشيء بوضوح !

المشاكل الاخرى التي طلبت من لورا أنْ تثبتها في تقريرها ، انهم لا يستثمرون ما يحصلون عليه من عائدات بيع النفط في الخدمات او الاستثمارات بل يوزعونها  كرواتب على  اكثر من خمسة ملايين موظف. يستمر عددهم بالتزايد كلما  اقترب موعد انتخابات مجالس المحافظات او مجلس النواب. كان اغلب الموظفين في المعامل والدوائر  يعيشون في بطالة مقنعة ومنهم مَنْ لا يعمل فعلياً اكثر من ساعة واحدة يومياً فقط !  فما الذي سوف يحصلون عليه غير عجز مالي بالتأكيد . كان النواب يطلبون من احزابهم مزيدا من الاصوات الجديدة في الانتخابات القادمة فتكونت طبقة جديدة تسمى بـ الشعب السياسي  وهم الذين حصلوا على تعيين في دوائر حكومية او شركات اهلية عن طريق ترشيح من احزاب لها ممثلون في مجلس النواب ومجالس المحافظات . لم يكن هناك فائض من الأموال التي يدرها النفط لاستصلاح الاراضي الزراعية او انشاء معامل لتكرير المشتقات النفطية او الصناعات الكيمياوية  او تشغيل مصانع الحديد او الاسمنت . فقد كان البلد مستمرا في استيراد اغلب المواد من الخارج و الاقتراض من البنوك لتسديد العجز لشراء الاسلحة و السيارات المصفحة. وشراء الاجهزة التي تكشف المتفجرات والتي كانت في اغلبها لا تعمل بشكل حقيقي . فقد كشفت صحف بريطانية هذه الصفقات الفاسدة واصبحت مثار تندر العالم اجمع .

قالت لورا : ( الوضع هنا مزري جدا ، فهم لا يريدون استثمار أموالهم. دعهم يقترضون من مصارفنا قدر ما يريدون و سوف يسددونها  مع مبلغ الفوائد التراكمية. لكننا لن نمنحهم قروضنا حتى نكون نحن من ننفذ مشاريع القروض. وبذلك سوف نربح مرتين . ما رايك يا حبيبي اليس هذا مذهلا ؟ ).

كانت تبدو مبتهجة جدا . لم اكن قادرا على منعها من الابتهاج فهذا هو ما تخطط له شركتنا. لكن من سيحمي الناس المسحوقين الذين يعيشون تحت خط الفقر او كما اسماه صديقي سعيد البصري في مدونته خط الصفر

 

كانت الاخبار تُنِبئُ بفوضى عارمة بعد حادثة جسر الائمة  و جريمة تفجير ضريح الإمامين العسكريين في سامراء ، فقد كانت البلاد تنحدر الى جحيم حرب اهلية . رحلت الكثير من الشركات تاركة خلفها عشرات المشاريع التي لم تنفذ. لكنها حصلت على تعويضات بمئات الملايين من الدولارات. و القسم الاخر قامت بالتعاقد مع مقاولين محليين لتنفيذ الاعمال بالكامل بأسعار متدنية . فكانت المواد المستخدمة في التنفيذ سيئةً و كفاءة التنفيذ اسوَأ. حيث اختفت الرقابة و تم هدر الأموال بغرابة و استخفاف. و حتى الشركات الاجنبية التي تعاقدت مع الحكومة لتدريب كوادرها على استعمال برنامج رقابية تم تعطيل عملها من قبل مافيات الفساد. كان كل يوم تأخير في انتاج النفط يكلف العراق فرصا ضائعة اضافة الى تكبده الدفع الى الشركات الاستثمارية التي يجب على العراق ان يدفع لها مبالغ الانتاج والارباح حتى قبل ان يتسلَّم مبالغ البيع التي تتم من قبل وسطاء يقومون بجني ارباح كبيرة. اضافة الى عمليات تهريب تقوم بها المليشيات التي تدعم احزاب السلطة .

بدأت الدولة بعرض المعامل القديمة للبيع . لم يكن أيٌّ من المستثمرين قادرا على الشراء ليس بسب تردي الوضع الأمني فحسب ، ولكن لان آلاف من العاملين في المعمل والذين كانوا يتقاضون اجورا دون عمل اشترطوا على الحكومة ان يستمروا في العمل مع المستثمر الجديد ولن يوافقوا على تسريح نصفهم كما أراد المستثمر. ذهبت للتفاوض معهم . قالوا لي:

(سنحرق انفسنا في المعمل ولن نرحل. نحن بنينا هذا المعمل منذ عشرين عاماً ، انه بيتنا الثاني كيف يترك الانسان بيته ليسكنه الغرباء ؟ اعطونا الأموال و سوف نصلِّح كل ما تم سرقته و تخريبه. تقولون انه لم يعد جديدا ، سنشتري مكائن جديدة ، سنقبل بنصف الراتب حتى يحقق المعمل ارباحا ، احموا المنتج من البضائع المستوردة سنة واحدة فقط و بعدها سوف ننافس المنتج الاجنبي بجودة منتجنا حتى لو كان سعر المستورد ارخص ).

لم استطع ان ارد عليهم . كانوا يلخصون كل ما ينادي به عمال العالم لمواجهة الخطة التي تنتهجها الشركات الكبرى لتحطيم صناعاتهم المحلية.

لم يستثمر احدٌ المعمل الذي كان منهوبا و متوقفا عن العمل. وبقي العمال يفترشون الارض دون ان يدفع لهم احدٌ رواتبهم المتأخرة !

 

ارسلت لورا التقرير السنوي في نهاية 2013 ، و قد حمَّلت الحكومة المحلية مسؤوليتها عن الفشل وانهيار البلد بسبب سوء الادارة و تفشي فايروس الفساد. و اتهمت الشعب بعدم استيعاب التطور في التجارة العالمية.

 

الطفلة استمرت بالمشي مسافات طويلة  الى مدرستها الطينية التي اصبحت على و وشك الانهيار فلم ُيشرع بترميمها او بناء واحدة جديدة. بل تم تنفيذ مِئتي مدرسةٍ وهميةٍ . حيث كانت الصور تُلتَقط لنفس المدرسة و تُرسل على انها مدرسة جديدة تم افتتاحها وهكذا تم اضافة الصور المزيفة الى تقارير مزيفة . كان الشعب يلتهم الزيف كل يوم .

أم صابرين استمرت في بيع المناديل الورقية في تقاطعات الشوارع. ناديتها بعد عشر سنوات من لقائنا الاول ، كانت تبدو منهكة ويائسة. قلت لها :

– ( بكم تبيعين كارتون المناديل ؟ )

– ( شنو يطلع من يدك الكريمة .. احنا ناس تعبانة و الله )

أعطيتها عشرين دولاراً. فانحنت لتقبل يدي ، افلتُّ يدي ، ومضيت ، لتملأ الدموع عينيّ ، متجنباً أن تراهما لورا

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *