الابحار الثالث – قرية جرف الملح / قرية البتران / درجة الصفر

مدونة سعيد البصري / 15 ، آب ، 2005 / البصرة

مستشرفٌ للرؤيا ، طائرٌ فوق الغيوم ، كطائر سنونو مهاجر عدت الى بلدي بعد خمسة عشر عاما من الغربة قضيتها  متنقلا بين لندن و بورتسموث. عدت الى قريتي  لم اتعرف على مكان بيتي او مكان مدرستي ، كانت هناك خرائب و بيوت متهدمة ، غابات النخيل اختفت، والقليل المتبقي منها بترت هاماتها وبقيت جذوع خاوية تكابر الفناء برغم قسوة الزمان والمكان . سالت عن قريتي ( جرف الملح ) ، لم يتعرف عليها الاطفال . لكن كبار السن ارشدوني الى منطقة عشوائية نمت على انقاضها تم تسميتها من قبل السكان المحليين ب ( قرية البتران ). لم اعرف سر التسمية الجديدة الا بعد ان التقيت بأحد  اصدقاء طفولتي كانت ساقه مبتورة ، سلمت عليه بحرارة ، لم يعرفني في بادئ الأمر ، لكني ناديته باسمه الذي كنت اطلقه عليه أيام صبانا : (رزوقي.. ،هل نسيت أيام كنا نجمع  الفراشات الصغيرة و نحشرها في علب الكبريت.) ، تعانقنا بشدة و بكينا . سالته : ما  الذي حل بقريتنا اين اختفى اهلها وبساتينها الجميلة ، ومن هؤلاء الناس الاغراب والبيوت المزدحمة والطرق المليئة بالقمامة و مخلفات الحديد و الجو المغبر الخالي من نسمات الانهار و روائح  اشجار البرتقال والحناء . نظر الي بعين واحدة  فقد كانت عينه الاخرى مُفقأة ،  وقال ( لا تسال عن الاهل والاصحاب ، انت هو الغريب الان ، تركتنا سنين طويلة، لم يبقَ شيءٌ كما تركته . بقيت بعض العوائل لم تهجر قريتنا رغم الموت المحيط بنا. رحل اناس كثيرون و جاء اناس اكثر سعيا وراء لقمة العيش فالجوع فتك بالناس سنين طويلة بعد انتهاء الحروب . انا نفسي بُترت ساقي ، وضربت احد الشظايا عيني . فقد سقطت من عربتي حاوية الغام غير منفجرة ، حينما كنت اقوم  بجمع بقايا النحاس و الفافون  المنتشر في (الارض الحرام) . كنت اسير كل يوم في حقل الالغام ومعي عربتي التي كانت محملة بالالغام و المقذوفات و الصواريخ غير المنفجرة . فقد كانت حكومة النظام البائد تشتري كل قطعة بخمسين دينارا ، كنا نخاطر بأرواحنا من اجل حفنة من الدنانير الملطخة بالدماء والمغمسة بعرق الخوف.) كنت اسمعه و اشاهد قسمات وجهه المتعب و جسمه المتهالك كمن يشاهد كابوسا مزعجا يتمنى لو يستيقظ منه فيتحرر من رعبه . قلت له انا غير مصدق لما ارى واسمع. سوف اجلب غدا معي كاميرا المنظمة الانسانية وفريق العمل الذين اعمل معهم ، لأصور كل شيءٍ و اعرضه للعالم . فلا يمكن السكوت عمّا جرى و يجري عليكم.

في اليوم التالي صحبني صديقي عبد الرزاق ودلني على بيت خالتي الوحيدة المتبقية من اقاربي في هذه القرية …

شغلت الكاميرا و بدأت بتسجيل فلم وثائقي طويل. اسمته المنظمة بـ قرية البتران . و اسماه صديق طفولتي رزوقي قرية جرف الملح . لكني اسميته لاحقا العيش تحت خط الصفر

 

# المشهد الاول ( الخالة أم أمل )  

( زووم طويل ) يظهر سكراب حديد  لمدفع قديم و عجلات حربية متفحمة و بقايا حديد ثقيل متكوم بالقرب من بيت طيني مهترئ . طرقنا الباب ، لم يفتح احد ، صوت من اعماق البيت ( هلا خالة .. مية هلا … منين انتو خالة …. اي انتو جاي تصورون …. خلي البس عبايتي  .. وافتح الكم الباب … بعيني ..) ، فتحتْ الباب أمرأة في الخمسينات من عمرها . نظرات أمرأه جنوبية خجولة هدتها سنين التعب والانتظار للراحة في هذه الحياة .( .. عذروني بس انا وبنتي الصغيرة بالبيت،  ابونا مات قبل عشر سنين انفجر عليه لغم من الغام الحدود …. جان يريد يوصل جثث جنود ميتين مع زلم من بيت (جابر دوشكا ) و داس على لغم و استشهد الله يرحمه .. وانا بقيت بعده ادير بالي على بنتي هاي أمل.. ما عندي غيرها ) . اخذت  الكاميرا ( زووم قريب )  على وجه لطفلة بريئة في الثانية عشرة من العمر ، يبدو وجهها مصفرا ، تسعل .. تسعل .. ثم تشيح بوجهها الصغير عن الكاميرا .. قالت أمها ( اصيبت بسرطان الرئة صار الها سنة . الجو هنا متلوث من دخان ابار النفط  ومناطق طمر الازبال ، القريبة منا  ..  راجعنا الدولة .. اعطونا مبلغاً من المال كتعويض عن تلوث الجو …صرفناه كله على العلاج  … لكن  ما اكو فايدة  …ما خلينا طبيب الا و زرناه .. ما اكو فايدة .. فقط العلاج بالكيمياوي.. سقط شعرها الاشقر  خطية هسه هي صلعاء .. تستحي تنزع حجابها حتى كدأم صاحباتها البنات …. يكولون لو تشفى لو تموت خلال اشهر …  ) قلت لها : (  خالة ..سوف اخذها الى طبيب اجنبي يعمل بمستشفى  ببغداد…. لا تقلقي … ان شاء الله تصير بنتكِ بخير )

( زووم متوسط) يظهر وجه المرأة المتشحة بالسواد و هي ترفع يديها الى السماء ( نذرت ازورها الأمام الكاظم ابو الجوادين بيوم استشهاده … عنده الشفاء .. هو طبيب بغداد .. هو باب الحوائج … شتكول يا الكاظم … احلفك بجاه جدك …رحمتك يا الله ) و انخرطت في البكاء … قلت لها : ( خالة أم أمل .. ان شاء الله الأمل موجود ، راح اكون بانتظاركم ببغداد ، موعدنا الجسر  ، نعبره و نزور الأمام و ندعوا  لبنتك أمل ، ثم نذهب للطبيب ).

نصحتنا أم أمل قبل ان نودعها بزيارة ( بصير القرية ) فهو يعرف كل اسرار القرية و ناسها، بيته يقع على ربوة في اقصى القرية على جهة الشط الصغير. قالت ، ان نساء القرية اعتدن ان يقصدنه كلما تأخرت قسمة زواج احدى بناتهن ، او تعسر مخاض احدى النساء الحوامل . فكان يدعو لهن بقوله: ( الله يجعل ما بيه الصالح ). ختمت المرأة المسنة كلأمها ستجدونه واقفا عند الباب بانتظاركم فهو يعرف من سيزوره دون ان يخبره احد!

# المشهد الثاني / الطفل المقطوع اليدين

الكاميرا تصور وجوه اهل القرية التي تحدق فينا بفضول . يستوقفنا منظر فتىً ،  عمره اثنا عشر عاما ، يمشي  بذراعين مقطوعتين من ادنى الكتف بقليل  . ناديناه ، اقترب منا  على استحياء (، زووم من فوق راسه يظهر يديه المقطوعتين و يظهره كانه قزم ) ، ثم ( زووم اخر متوسط  يظهر وجهه ) ..

– ما اسمك ؟

– عباس.

-كيف قُطعت يداك ؟

– سقطت على بيتنا في (أم قصر ) قذيفة من طائرة أمريكية  ،فقُطعت  يداي و احترق صدري وبطني . ومات والديّ و كل اخواني و اخواتي ، بعدها جلبني عمي الى بيتهم في هذه القرية .

يطلب من احد الفتيان  بقربه ان يرفع قميصه ليرينا بطنه . زووم قريب على صدره و بطنه يظهر اثار الحروق الشديدة .

زووم اخر من اسفل جسم الطفل يظهر قامته  اطول من طولها الحقيقي و يظهر وجهه الاسمر وهو يحدق بالشمس التي تميل للغروب و هو يقول ( اريد ترجعون الي يديّ ! ). صاح احد شيوخ القرية : ( الله كريم !) .

 

  # المشهد الثالث / اللاعب بالعكاز !

قبل الغروب كانت ساحة القرية  الترابية يتصاعد منها الغبار .. بضعة فتيان  يلعبون الكرة  .. احد الفتيان عمره اربع عشرة سنة  يمسك عكازة بإحدى يديه .. احدى ساقيه مبتورة و الاخرى  يركل بها كرة جلدية قديمة ، ويتابع تدحرجها بسرور . انتظرنا حتى انتهاء اللعب . سألنا الفتى ما اسمك ؟

 – حميد.

– هل تحب لعب كرة القدم.

– احبها جدا ، كنت اتمنى ان العب في المنتخب الوطني. لكني فقدت الأمل، بعد فقدان ساقي اليسرى .

– كيف فقدتها ؟

– دستُ على احد الالغام حين كنت في طريقي الى المدرسة .

– الم تكن تعرف انه حقل الغام ؟

– لم يكن حقلا للألغام من قبل . كان لغما جرفته السيول .. الالغام تمشي ليلاً !

– اخذنا لك صورة و انت تركل  الكرة .. انظر الى  وجهك.. انه مشرق بابتسامة جميلة رغم الالم .. قطرات العرق على وجهك…انظر … هل اعجبتك ؟

– (اي  … كلش حلوة !).

 

# المشهد الرابع / حفيد العازف تومان !

(زووم من الاسفل الى الاعلى ، ببطء) يُظهر قامته الطويلة السمراء . العدسة تثبت على شفتيه العريضتين قبل ان تنتقل الى قبعته التي تشبه قبعات رعاة البقر . يخاطب الكاميرا ((أعجبتُ بشخصيتين، اولهما جدي تومان الشهير ، الذي اشتهر باستخدام ناي قصبي يسمونه (ماصول).  يقربه من انفه ، ثم يطلق تيارا هوائيا من انفه كما لو كان يطلق زفيرا طويلا فيقلد أنغام الاغاني الشعبية و الوطنية التي كانت رائجة في عقود السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي . كان يعيش كملك فقير ، لا يطلب نقودا لقاء ترفيهه عن عامة الشعب . لكنه يحصل منهم مجانا ًعلى كل ما يريد من طعام او شراب او نقل او سكن . فالناس كانوا فخورين ان يزورهم في مطاعمهم او مقاهيهم او يقومون بنقله الى حيث يريد لسماع الحانه و نكته ومقالبه و بهلوانيته  المدهشة  . لم يكن  بهلوانا للسلطان بل للناس البسطاء . فكان يرفض عروض العمل  لترويج افكار الحكومات او الاحزاب او حتى الشركات . لكنه يقوم  بترويج الأفلام السينمائية  التي تعرضها دور السينما حينها . فتقوم  فرقته  الموسيقية (الخشابة ) ؛وقت العصر ؛ برحلات  نهرية مستخدمين زورقاً بخارياً يجوب شط العرب  ، فيعزفون  الحانهم الشعبية ، فيطرب بسماعها  الاطفال والنساء و يصفقون لتشجيعهم . ثم ما يلبثون  ان  يطلقوا  صراخات الخوف حين يقوم بالغوص  في النهر لفترات طويلة ، فيحسبون انه قد مات غرقا ، ليكتشفوا  انه قد خرج عليهم عند الجرف . فتعلو صيحات الاعجاب و تلتهب الاكف بالتصفيق،  و تعزف فرقة  (الخشابة ) الحانها من جديد. )) .

تنهد  و اطلق حسرة طويلة . ثم اضاف ((  بلغ تومان ثمانين عاما ، وقيل لنا انه مات بطلق ناري طائش ! من يدري لعله سخر من احد رجال السلطة الذين  لا يفرقون  بين فن التهريج  وبين النقد السياسي  ، فارداه قتيلا ! )).

جلسنا معه على جرف شط العرب وسألناه عن الشخصية الاخرى التي نالت اعجابه .فقال  وهو يشير الى قبعته: (( انه براك  أوباما ، اول رئيس أمريكي اسمر البشرة ، فقد وزعنا الحلويات يوم فاز بالانتخابات و دخل البيت الابيض فاتحاً ، كأول اسمر يدخله دون قتل و دماء،  كما يحصل في ثورات الزنج و الحروب العنصرية القديمة . هكذا هي خطتي ان اقوم بأول محاولة لرجل اسمر في هذا البلد بالترشح للبرلمان .  فعلى الرغم من الجهود العظيمة التي بذلها  اصحاب البشرة السوداء  و مساهمتهم الواسعة في كل مجالات الصناعة و الزراعة و الدفاع عن الوطن لم يحظوا بمنصب في البرلمان او الوزارة منذ تأسيس الدولة الحديثة  في هذا البلد  قبل حوالي مِائة عام. فلماذا هذه العنصرية و التهميش لنا ؟ لقد تعرضنا لكل انواع الاذلال النفسي والجسدي . يصفوننا بكلمة (عبيد ) رغم انهم يدعون الحرية و الديمقراطية و اللبرالية و غيرها من الصفات المخادعة )) . صمتَ لعدة دقائق ، ربما تذكر خلالها اننا ربما نمثل منظمة متهمة بالتمييز العنصري ، كون رئيسها هو احد البرلمانين الاوربيين من اصحاب البشرة الشقراء و الدماء الزرقاء النقية .  فقطعتُ صمته بكلمات ذات  نبرة حزينة ، لأشاركه المه و تذمره  : ( كلنا في هذه القرية ذقنا التهميش و عشنا قسوة السلطة ، انظر الى وجهي المحروق .. انا من ابناء هذه القرية الذين احترقوا بالنّابالم ) . (( زووم  قريب على قسمات وجهه؛ وهو ينظر الي متأثرا ؛ لن يتم عرض ما قلته )) . اجابني : (( يا اخي ، كلنا هنا  اخوة في الانسانية بغض النظر عن لون البشرة او القومية او الدين او المذهب . كلنا ابناء ابينا  آدم الذي غرس شجرته هنا  ،في مكان التقاء نهري دجلة و الفرات ، اشارة الى وحدتنا . لماذا يريدون ان نشعر بالتفرقة؟  سوف اقوم بحملة انتخابية ادعو فيها الى نبذ العنصرية و تجريم استعمال كلمة ( عبد ) ! يجب ان نقوم  بحملة لمحو أمية كل اصحاب البشرة السمراء  و تشجيعهم على الانخراط في الجامعات و المعاهد و  فتح الابواب أمامهم للتعيين في الدوائر الحكومية و تقلد  المناصب  العليا في الدولة . يجب  مساعدتهم على  الاندماج بالمجتمع ، منحهم قطع اراضي ،  مساعدتهم على بناء مساكن تليق بهم كأبناء لهذه الارض الغنية بالخيرات و الذهب الاسود . لن نسمح ان يستمروا بتذكيرنا باننا احفاد للعبيد الذين تم جلبهم من افريقيا أيام الدولة العباسية . فنحن مثل باقي البشر الذين هاجروا عبر التاريخ و استوطنوا بلاداً اخرى . فهل يجب تذكير اصحاب البشرة البيضاء  مثلا  ان الكثير من عشائرهم  نزحوا من اليمن مثلا  و استوطنوا  الجزيرة العربية و العراق  ؟ كلا ، بالتأكيد ،  فكلنا اصبحنا اليوم اخوة في هذه الارض، التي سقيناها بعرق جبيننا و دمائنا .))

صفقنا له بعد خطابه الحماسي وعانقناه ، قبل ان نودعه ، متمنين له الانتصار في الانتخابات  المقبلة.

# المشهد الخامس / حكواتي القرية  

بحثنا عنه طويلا فقد غير مكانه القديم الذي اعتاد الجلوس فيه . وجدناه اخيراً ، وقد ارتدى كعادته   ثيابه  الفلكلورية القديمة ؛ ثوبا عربيا ابيضا و عباءة ذهبية يزينها خنجر فضي صغير في وسط حزامه العريض و يعلو راسه  الكوفية و العقال . وجدناه اليوم  يجلس وحيدا قرب  شجرة صفصاف متيبسة وسط ساحة جرداء . (زووم بعيد يظهره و حيدا . ثم زووم  قريب جانبي يظهر وجهه  يبتسم بألفة وقد خطت على جبينه يد الزمن خطوطا وانحناءات    تظهره  اكبر سنا وحكمة من كل الحكواتيين الذين مروا على قريتنا ) ، قال لنا  : (كنت ابتدئُ حكاياتي بالقول  : يا سادة يا كرأم ُ كان يا ما كان في قديم وسالف الازمان يحكى ان … ثم استمرُ في حديثي  الساحر لقلوب  النساء والرجال ، الفتيان و الفتيات و جمع من الاطفال ممن كانوا يشربون من كؤوس سحر بياني ، كما احب ان تُوصف حكاياتي . كان مجلس الحكايات ينعقد في  ساحة قريبة من شط العرب ، حيث نصب الحوريات اللواتي يُحطنَ بالسندباد ، ليودعنه قبل سفره في رحلاته السبع . يقابله من الجهة الاخرى نصب كهرمانة و جراتها الاربعين ، التي تحوي اربعين لصا ينتظرون زعيمهم (علي بابا ) لينقضوا على(علاء الدين ) ويسرقوا منه مصباحه السحري . غير ان كهرمانة بذكائها الفطري كانت تقوم بصب الزيت الحار فيحترق اللصوص الاربعون و ينجو علاء الدين و تنجو المدينة من شرهم وفسادهم القديم –الجديد. الذي افسد مجالسي وهدم  كل النصب التراثية  فتفرق شمل الاحباب ، وبقيت وحيدا كما تروني. اجلس في ارضٍ جرداء ، بعدما نزعت منها الاشجار و نضب من سواقيها الماء . ابتدعت طريقة  جديدة  لبث حكاياتي عن طريق اليوتيوب و الفيسبوك . فكان مُحِبيّ  يتابعونني بلهفة   يدعموني بالأعجاب و الاشتراك ! اي زمنٍ هذا الذي فسدت  فيه حتى الحكايات ، فأصبحت اروي حكايات الاربعين حرامي الذين يقتلون كهرمانة و يسرقون جرارها و  زيتها  و لا يبقون حتى على تمثالها الذي اصبح عورة يجب دفنها وتسويتها بالتراب !))

# المشهد السادس / الشاعر ذو القصيدتين  

التقينا بالشاعر الذي اشتهر بقصيدته  التي انتقد فيها قسوة و طغيان النظام أيام حكم صدام.  فعاقبوه  ببتر كف يده  اليمنى بعد تعذيبه وحرق جسده بأعقاب السكائر  و تعليقه لعدة أيام من يديه.  متهمين اياه بتأليف قصيدة تتحدث عن توزيع  وزارة التجارة طحيناً لفقراء القرية  بعد خلطه ببذور الذرة و نوى التمر و غيرها من الشوائب و الحصى  . ولما سقط النظام ، القى قصيدة  اخرى  لفضح سراق قوت الناس. فقطع (مجهولو الهوية ) كف يده اليسرى.  فاصبح يعرف  بالشاعر ذي القصيدتين !

(زووم قريب تظهر الكاميرا يده اليمنى ثم اليسرى المقطوعتين ، ثم زووم متوسط يظهر جسمه النحيل). سجلت كأميرتنا، ارتجاله  لقصيدته الجديدة :

( اعترفنا لك مجاهد .. هاجرت .. ضحيت ،

خلي الناس تسمع ، تشهد عليّ ،

كلنا لك جهادك تاج فوق الراس ،

مو معناها تلحس المالية !

على سخام الوجه ، على البوك ، على الفرهود،

على شنهو انطيكم ثمانين بالمية ؟

جنابك جنت تاكل بيتزا بتكساس ،

و انا اسنين يوسف عرسن بي !

بس ارد افتهم ماكل فصم وياي ؟

شني بسوق الهرج بايع الزولية ؟

بعت البيت مفرد .. باب يلحك باب ؟

حطيت أمكان الباب كونية ؟

ابنك شاهدك مامش ربع تنطيه ؟

رايح للدوام بغير يومية ؟

هم أملاكي ابوك أمدنك او خجلان ؟

من يم كصته مكرضة الجفية.

طحنت شعير .. متقرض شكر بكلاص ؟

أمك راكصة ابجيت الكمية ؟

اركبك صاحية .. طلعها خلي انشوف ؟

طفت بيها الجكاير مثل رجلي ؟

شو بالله ذاناتك .. زين موجودات ، ولد الخايبة الصارو افرارية !

لو منك احط بكل ركن تمثال

وخلق الله تجي تسجد لي يومية !

على كل جنسية عندك روح اخذ برميل ،

لا بل اخذ بير على كل جنسية !

كول براحتك كلشي اللي تريده يصير ،

ما الومك شفتني خير ما بي !

لو عندي شعب خلاكم تقرون ،

اللي يعيش بقلق عودة البعثية ! ) * * *

# المشهد السابع / بصير القرية

نسلك طريقاً ترابيّاً ضيقاً ،نمشي بحذر ، الكاميرا تصور اثار الأقدام كأنها قد  فخرت بالطين فلا تُمحى. تم تحذيرنا انه على جانبي الممر توجد بضعة الغام ، لا يمكن الا لأهل الاختصاص انتزاعها من احشاء الارض ، فهي من النوع الدائري الحساس. فأدنى محاولة لتحريكها ستنفجر . مشينا في الطريق( الميسمي ) وهو مصطلح عسكري تسرب الى كلأم القرويين كعشرات المصطلحات الاخرى . وصلنا الى بيت طيني قديم ، لم يكن مختلفا عن باقي البيوت الا بكونه خالٍ من اطباق الستلايت و النت. كان باب البيت ملطخا بأثار اكف الحناء المحمرة وهي ؛ كما عرفنا لاحقا ؛ اثار اكف نساء القرية اللواتي كن يتبركن بالرجل البصير ، صاحب الدار.

التقيناه واقفا بانتظارنا عند الباب ؛كما ادعت أم أمل ؛ رجلاً في الستينات من عمره، يرتدي نظارة شمسية عريضة تخفي ندوب الشظايا التي حول عينيه وفي وجنتيه . حليق الذقن ، يرتدي ثوباً عربيّاً رصاصي اللون، احدثت فيه جمرات السكائر ثقوباً لا تٌحصى. دعانا للتفضل بدخول الدار. اردنا ان نمسك بيده ، شكرنا بأدب قائلا: ( احفظ الطريق لا عليكم ، اشوف بقلبي !).

(زووم قريب ، نحرك عدسة الكاميرا نحو الشظايا في وجهه و يديه تارة و نحو شفتيه المتحركتين تارة اخرى) … (( اسمي فؤاد طه ، لا اعتقد ان احداً من سكان القرية ما يزال يتذكره . فهم يدعونني بصير القرية مذ ان فقدت بصري ، بعد انفجار بضعة الغام ارضية بقربي وتقطيع شظاياها لشبكيتي عينيَّ في حرب الأعوام الثمانية. كان عمري وقتها احدى وعشرين عاماً. كنت وقتها ساخطا على الله والدنيا ، فلم اكن قد عرفت من الدنيا شيئا غير طفولة و مراهقة بريئة بين حقول القرية.  فبعد ان تمت دعوة مواليدي للخدمة العسكرية الإلزامية ، بقيت في الجيش ثلاث سنوات ، شاركت خلالها في عدة معارك . كنت في فصيل هندسة الالغام في وحدتي العسكرية  ، واجبي هو تسليك الالغام . كنا نعمل في الارض الحرام ليلاً  كي نتجنب رصد   القناصين نهارا فنكون هدفا سهلا  للقنص  او لمدفعية العدو. حين كانت  القنابل الضوئية تنير السماء من فترة الى اخرى كنا ننبطح ارضا حتى يختفي التنوير الليلي و يذوي في ظلام ارض الحرام الدامس.

( زووم متوسط ، يظهر بصير القرية متأملاً سقف الغرفة كأنه يشاهد ما يتذكره ) ، كانت احدى الليالي المظلمة اواخر الشتاء حيث يكون  الجو باردا في (زرباطية )، فهي منطقة تلال يمكن التخفي خلفها لزرع الالغام . كان احد زملائي يحدثني عن اشتياقه الى ابنته البكر  التي ولدت قبل ثلاثة اشهر ولم يستطع الحصول على اجازة لرؤيتها فالمعارك لم تنقطع و الجيش في حالة انذار مستمر . صنع لها تميمة من شظايا نحاسية ملونة ، قلت له: (- لعلها هدية مخيفة لرضيعة !) ، ضحك ساخرا و همس لي :(( ولدت في أيام المعارك وكلما طلبت  مني زوجتي ان آتي لأطبع اول قبلة على جبين ابنتي البكر، اخبرتها انهم لا يسمحون  لنا بالنزول فهناك معارك تتلوها معارك ثم معارك ، وهكذا اطلقت عليها أمها اسم  (معارك ) ! )).

كنتُ اتمنى لو اني تزوجت قبل بدء الحرب لكان لدي اطفال ينتظرون عودتي الان . كانت مخيلتي تبحر بعيدة عن حقل الالغام لتصل الى ( بهية ) صديقة طفولتي ، فقد تربينا معاً . لم ارها منذ  طفولتها ، حين رحلتْ مع عائلتها عن قريتنا الحدودية . لكنها عادت وقد تغيرت  ضفائرها  السوداء الطويلة  الى تسريحة جميلة لأمرأه ناضجة ، كما تظهر عليه النساء في الأفلام الهندية، التي احب مشاهدتها أيام اجازتي . كان خيالي يسافر بعيدا ليشاهد صور شاشة سينما الكرنك .. التي تعرض الان  فلماً هنديّاً حزيناً .. لعله فلم الأم  او  فلم  القانون الاعمى .. رقص الابطال مع البطلات الهنديات ، بشعورهنَّ الطويلة  وعيونهنَّ الواسعة السود..  لم اكن اصغي لما يقوله زميلي فقد  كدنا ان ننتهي من واجبنا وننسحب .  لكنه فجأةً  اعطاني صندوق الالغام الذي بقي  فيه لغمان ، لم نزرعهما . فجاءة عاد مستعجلا قائلا : ( لقد نسينا تسليك اخر مجموعة!)  تحرك  نحو اليمن عدة أمتار، لكن قدمه وطئت  سلك الالغام التي تم تسليكها من قبلي.  فقد انشغلت بأحلام اليقظة التي ورثتها من أيام طفولتي و نسيت اخباره بإكمالي التسليك !.

(زووم قريب على شفتيه وهو يدخن سيجارة جديدة ، يسقط رمادها على ثوبه ) … لم استفق  الا بعد يومين في مستشفى الرشيد العسكري . كانت عيوني معصوبة بضمادة طبية سميكة  ، وجسمي مملوءاً بالشظايا . أما صديقي فقد استشهد رحمه الله،  و لم يرجع لِيُهدي صغيرته القلادة النحاسية التي صنعها لها ! حين رفعوا الضمادات عن عينيّ ،  قالوا لي انها مملوءتان بالشظايا وسوف نخرجها فيعود لهما البصر . لكنهم صارحوني بالحقيقة بعد مرور اشهر. لا أمل بالأبصار ثانية ! فالدم كان جامداً على الشعيرات الدقيقة في شبكيتي عينيّ . و لا يوجد طبيب في كل انحاء العالم سيتمكن من اصلاحهما . كانت مشاعر الاحساس بالذنب لما حدث لصديقي يتمازج مع شعور بالحنق والنقمة لما حدث لنا بسبب  حرب لم افهم، لماذا كنا نشارك بها اصلا،  ولماذا اختارتنا كضحايا لها  ؟!  من كان المذنب الحقيقي  ومن كان الضحية ؟   لم يكن يخفف عليّ همي و حنقي  سوى صوت و أنامل  ممرضة جميلة جدا، كانت تعتني بي كل يوم ، طيلة الاشهر الاربعة التي قضيتها في المستشفى. قلت لها ذات صباح حين غيرت ضمادات عيني .

– لون شعركِ اشقر ، لكنه قصير. هو مناسب جدا  لوجهك المستدير.

– وكيف عرفت ذلك ؟

– ان مخيلتي رسمت صورتك من نغمات صوتكِ .

– لعل  مخيلتك تراني اجمل من حقيقة شكلي .

– مخيلتي هي سر بلائي و سر سعادتي .

 

تلك هي يا سادتي بداية قصة صداقتي لصور الظلام التي رافقتني حتى هذا اليوم . كنت أمسك بيدي عصا لكي اتحسس طريقي في بدء الأمر ، لكني بمرور  الوقت اعتدتُ على تحسس الطريق ببصيرتي ، فصرت أمشي دونما مساعدة من احد . كانت ذاكرتي مرتبطة بالمكان و الاصوات عبر المخيلة التي كانت تحضر الاشياء في فضائها الاثيري بكل الوان الطيف ، بالأبعاد الثلاثية المجسمة للأشياء.

عدنا بعد الحرب الى قريتنا جرف الملح لفترة وجيزة ، لكنا هجرناها  مرة اخرى بعد ان ضربها النظام البائد بقنابل النّابالم . بعد سنين عديدة عدنا لها . لكنها تغيرت كثيرا و حتى اسمها تغير ، فلقد سكنها الكثير من الناس بحثنا عن النحاس و الفافون المستخلص من قاتل البشر و باتر اطرافهم  و سبب شقائي : مخلفات الحرب و الالغام ! أ تصدقون ذلك ، انها سخرية القدر ! او ربما  عقوبة من الله !  فلقد جاورتْ منزلي  مجموعة من الالغام غير المنفجرة حتى الان . قدري الساخر جعلني أمشي بين الالغام مكفوف البصر دون ان اتعثر بها ، بينما ما يزال الكثير من سكان القرية يقعون ضحية لها . كنت اشم رائحتها او اسمع صوتها الصامت في مخيلتي ولهذا سكان القرية اسموني ب (البصير).

تسالوني لماذا  اخترت العيش في هذا المكان ؟ وماذا اقصد بالقول ان الالغام هي من جاورتني ؟ اقول لكم الالغام تهاجر نتيجة للسيول من منطقة الى اخرى ، فهي لم تكن هنا بالأصل لكنها استقرت قبل بضعة سنين نتيجة للسيول التي اجتاحت منطقتنا . بعدها حاصرت الالغام عددا من البيوت في قريتنا. ازداد على اثرها عدد البتران حتى صارت تسمى بهذا الاسم الساخر ! قرية البتران هي ليست مكان بل هي قدر مكتوب على جباهنا. نعم قدر مكتوب  ، تعتقدون ان الهروب ممكن ؟ اقول لكم لقد جرب احد الجيران الهروب فذهب الى قرية بعيدة في الشمال ،  لكنه اصيب بحادث سيارة ، بترت على اثره ساقه  وعاد للعيش بين اهله  في قرية البتران ، فالبتر و العوق  ليس حادثة عرضية بل هو قدر يربطنا بالمكان.

(تقترب الكاميرا بزووم من عينيه و جفنيه المرصعين بأثار و ندوب الشظايا) . بعد ان طلبنا منه خلع  نظارته الداكنة. في محاولة منا ان تسبر كأميراتنا خفايا هذا الرجل الذي خرج من غرفته الصغيرة عبر باب ضيق  يُفضي الى باحة غير مستوية تحتوي على تلة صغيرة. حيث يجلس كل يوم عدة عند وقت الغروب فوق كرسي صنع من خوص سعف النخيل. جلسنا فوق اريكة من جذوع النخيل أمامه ، كانت الكاميرا تصور قرص الشمس وهو يقترب من التلاشي خلف خط الافق ، حين بدا بالحديث كانه شخص لا ينمتي لعالمه بل هو خارج المكان و الزمان ( سحب نفسا عميقا من سيجارته التي لم تفارق يده سواء كانت مشتعلة أم مطفأة … انتم اناس طيبون تريدون ان تعرفوا لماذا اهل هذه القرية متشبثون بحياتهم القلقة بل الخطيرة  هنا ؟ و لماذا لا يهاجرون الى أماكن اخرى ؟  الحقيقة انهم يهاجرون لكنهم يعودون محملين بالخيبة لعدم حصولهم على مصدر منتظم للرزق يقدرون على دفع اجور المعيشة من اجور للسكن و الكهرباء والماء و الضرائب و الطعام والتنقل بين ارجاء المدن المتباعدة . فلهذا هم يعودون جالبين معهم أُناساً جدداً. وذلك حين يخبرونهم ان بإمكانهم بناء بيت لهم في أيَّة قطعة من الارض البور التي لا يملكها احد  ، دون دفع  ثمن او ضريبة . وذلك بما تسمونه بـ ( الحواسم ) ، و نسميه نصيبك المجاني في ارض الوطن ! وكل عمل تقدر عليه يمكنك ممارسته دون المطالبة برخصة رسمية او ضريبة للدخل . والشراء والبيع لا يخضع للضرائب و الوسطاء ، فالفواكه والخضروات و الحبوب و انواع المواشي و الدواجن و الاسماك و منتجات الالبان يمكنهم شرائها من الفلاحين و اصحاب حقول و تربية الحيوانات مباشرة بأرخص الاسعار. و الكهرباء وباقي الخدمات ؛ان وجدت ؛ بدون رسوم للجباية  ! فنحن خارج التصميم الاساسي للمدينة ، بل نحن خارج الحضارة و المدنية ، فلا طرق معبدة و محطات تحلية للماء و لا يوجد شبكة مجاري ، نحن خارج اهتمام الحكومة او مراقبتها .فانت هنا تحتاج الى ابسط دخل يومي لتعيش دون ضغوط او تهديد من احد فكل الناس مسالمين و بسطاء الى درجة انك تعتقد انك في الجنة عند اول الصباح وبعد الغروب . لكنك سترى الجحيم كل يوم عندما يثور لغم او يسقط احد الاطفال صريعاً لمرض غريب او يختنق احد الشيوخ من جراء السموم التي تطلقها ابار النفط المحيطة بنا . فلهذا القرية في ازدياد وتوسع ولعلها ستكون يوما مدينة جديدة ، لكنها بالتأكيد ستكون مدينة يائسة . تنأم و تصحو على أمل واحد هو العيش يوما اخر، العيش لمجرد الحصول على لقمة  العيش ، دونما أمل بالتطور او التخلص من القلق اليومي من الاصابة والعوق و ربما الموت. نعم الموت ، الذي ينأم تحت التراب ساخراً ؛ بنصفِ عينٍ مغمضةٍ ؛ ليصحو على حين غرةٍ ليزورنا ، فهو ضيفنا اليومي . و ربما من عدم الانصاف ان نسميه ضيفاً ، بل هو صاحب الدار الحقيقي ، ونحن ضيوفه ثقيلو الظل !                                                                   

قلنا له انك تتكلم بصورة مختلفة عن باقي الناس البسطاء في هذه القرية فمن اين حصلت على هذه الثقافة و النظرة المتعمقة ، برغم انك لم تتلقَ تعليما جيدا او تختلط بأناس مثقفين ؟ 

بعد ان صلى صلاة المغرب و العشاء و نوافلها ، طلب من احد ابنائه ان يجلب الشاي لنا فاكملنا التصوير ، قال اذا كان يهمكم الجواب و يُسمح لكم ببث هذا التسجيل من قبل منظمتكم الانسانية الموقرة فسوف أُجيبكم بالتفصيل . اجبناه قل كل ما تريد .. سوف نصور كل شيء ونبثه دون تغيير حتى لو كان كلاماً موجهاً ضد اشخاص في الحكومة … ضحك قائلا : (لست مهتماً بمن سيحكم اليوم او غداً ، لان الحاكم الحقيقي هو الله وحده و كل البشر حكمهم زائل و باطل اذا لم يرتبط بالسماء و بالنفس الانسانية الحقيقية.)

قال له زميلي في فريق التصوير ؛ و الذي لن نظهر وجهه او صوته في النسخة التي سوف تُبث : 

– هل يمكنك ان توضح بدقة ما الذي تقصده بالنفس الانسانية الحقيقية ؟

– النفس الانسانية الحقيقية هي الهدف المنشود من هذا الوجود وهي المخاطبة بقوله تعالى : (وما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون ) ، اي لكي يعرفون . فالمعرفة هي الغاية من الخلق و من عرف نفسه فقد عرف ربه ، فلابد ان يعرف الانسان نفسه ليعرف ربه.

– اذن انت تشدد على ضرورة التعلم و المعرفة ولكن هذا غير متوفر في قريتكم لبؤس المدرسة الوحيدة في قريتكم  التي زرناها ولمسنا معاناة الطلاب فيها  فلا وسائل تعليمية كافية و لا كتب ولا حتى رحلات للجلوس  و كذلك  قلة المعلمين الموجودين فيها.

– كلأمك جدا صحيح عن واقع المدرسة . لكني لم اعني  التعلم في المدراس ، فهذه المدراس غالباً لا تعلم سوى اشياء تتعلق بالنفس الحيوانية و النفس النباتية . أما  تعليم الاتصاف بصفات  النفس الانسانية و النفس اللاهوتية الملكية ، فهذا شيءٌ مختلف تماما.

– انت تتكلم بأمور فلسفية خارج موضوع فلمنا الوثائقي وربما لا يدرك معناها  الكثير من المشاهدين.

ابتسم بهدوء وقال انتم من كنتم تسألون عن هذه المواضيع وانا كنت أُجيب عن أسئلتكم . حسبتكم مهتمين لمعرفة حقيقة نفوس هؤلاء الناس الذين يعيشون قرب الموت غير مبالين به ، مستسلمين له تارة و خائفين منه بل رافضين له تارة اخرى.

– و هل تدعي انك تعرف الاجابة على هذه الاسئلة ؟

– لا ادعي ذلك ، لكني ارى بعين البصيرة ما الذي يحرك كلاً منهم ، اعرف بان من يرى ظاهرهم قد يشفق عليهم و يعتبرهم بشراً يائسين يعيشون تحت خط الفقر ، الذي اسميه انا مجازاً خط الصفر! حيث تتحول الحياة الى رغبة قاسية مقتصرة على البقاء ليوم اخر من أيام الدنيا ، دون طموح لحياة احسن او لمعنى يلخص تفاصيل حياتنا المبعثرة التي  تظهرها شاشات الفضائيات. كما لو كنا اشباحاً في مسرحية عبثية اسمها لقمة العيش ! لكن هؤلاء الناس البسطاء الذي تم تعمد تجهيلهم لعشرات السنين ، يمتلكون نفوساً تتجاوز رغباتهم الحيوانية البسيطة في الاكل والشرب والزواج  و الحصول على خدمات كالشوارع المبلطة و مجاري الصرف الصحي و راتب الرعايا الاجتماعية و مياه الشرب النظيفة و وصول التيار الكهربائي الى منازلهم و أماكن عملهم. انهم يمتلكون نفوساً انسانية لها حواس باطنية راقية   تتفوق على الحواس الخمسة الظاهرية الاخرى ، حواس لها مطالب اخرى تم تعمد تجاهلها من قبلهم اولا ، ومن كل الحكومات التي سيطرت على تاريخهم . وسوف يأتي اليوم الذي يعون فيه أهميتها و سيكون همهم الحصول على انسانيتهم المهدورة و ليس الخدمات او المبالغ المسروقة. حينها لن يقف أمام رغباتهم تلك أي خوف من تهديد بالتصفية الجسدية او الحرمان من الخدمات المدنية . سوف يعلو صوت الانسانية فقط ، ولن يكون صوتا مهموسا عبر وسائل الأعلام بل صوتا صادحا كاستيقاظ نائم حُبس لمئات السنين.

ودَّعْنا بصيرَ القرية. وودَّعْنا اهل القرية الاخرين و اخرهم رزوقي الذي رافقنا حتى عبورنا الى الضفة الاخرى من شط العرب. متمنيا لنا السلامة من الالغام و رائحة اشباح الموت الساكنة في قرية البتران.

قمنا بتسليم المادة الفلمية الى مقر المنظمة الانسانية . التي قامت بعمل مونتاج للفلم الوثائقي و نشره  على صفحتها الالكترونية . كما بثته العديد من القنوات العالمية بعد ترجمته الى عدة لغات. كان افراد طاقم العمل فخورين حين ظهرت اسماؤهم في نهاية الفلم الوثائقي . لكني بقيت في قاعة العرض مصدوما و قد تشنجت عضلات وجهي ، كما كان يحدث حين اغرق في بحر حلم كابوسي من أحلام يقظتي . ولكنه هذه المرة كان حلما واقعيا  ، فقد اقتصر عرض مشهد بصير القرية على بضع جمل متجزئة بصورة تشوه رسالته للمشاهدين : ( … اسمي فؤاد طه ، لا اعتقد ان احداً من سكان القرية ما يزال يتذكره . فهم يدعونني بصير القرية مذ ان فقدت بصري ، بعد انفجار بضعة الغام ارضية بقربي وتقطيع شظاياها لشبكيتيَّ عينيَّ في حرب الأعوام الثمانية. كان عمري وقتها احدى وعشرين عاماً. كنت وقتها ساخطا على الله والدنيا!) لم اعتبره سلوكاً احترافياً او تصرفاً بريئا . كما حاول تبريره مُخرج الفلم ، بوجوب اقتصار الفلم الوثائقي على ابراز معاناة السكان المحليين من حوادث الالغام دون الاسهاب في تفاصيل لا تثير اهتمام المشاهدين !

الصورة التي اطلقنا عليها اسم اللاعب بالعكاز! فازت بإحدى الجوائز العالمية لفن التصوير الفوتوغرافي. اشترينا بمبلغ الجائزة طرفاً صناعياً للطفل حميد ، صاحب الصورة . اخبرني صديقي رزوقي ان الطفل فرح به كثيرا ، لكنه لم يلعب الكرة مرة اخرى مع رفاقه. فقد بترت رجله الاخرى بلغمٍ جديد!

لم أمتلك الشجاعة لزيارة اهل القرية مرة اخرى لدعوتهم لمشاهدة الفلم الوثائقي الذي تم بثه. ارسلت رسالة بواسطة صديقي رزوقي الى خالتي أم أمل و ابنتها الصغيرة : 

( نتظركم في بغداد لزيارة الطبيب الاجنبي ، سنذهب قبل ذلك لزيارة الإمام الكاظم عليه السلام ، كما احببتنَّ. موعدنا الجسر!). 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *