الابحار الثاني – الباب الاول من كتاب المحو

الباب الصوري

اقرا لكم في الباب الاول من كتاب المحو ؛ حيث لا توجد كلمات او ارقام للصفحات. بل ان صفحاته  تبدا بصورة باهتة اولا ، يبدا الاشخاص فيها بالبروز و الاشياء بالوضوح اكثر و الاضواء بالسطوع و البريق بالوان زاهية و الحروف بالتشكل كلما  تقدمنا في قراءة كلماتها رويدا رويدا. حتى اذا ما انتهينا وبدأنا بقلب الصفحة ، تبعثرت الحروف و اختفت الكلمات و خفت بريق الصورة و مُحيت الوانها . لكنها لا تزول بل تبقى كصورة باهتة لا تُميز ملامحها ، حتى يبدا قارئ جديد بالنظر اليها و قراءة كلماتها فتبدا بالظهور لكن بملامح مختلفة و حكاية اخرى تناسب روحه التي تقرا. فهي ليست ككل الصور ولا ككل الكلمات الجامدة بل هي حية بحياة من يشاهدها ومن يقرا كلماتها السرية التي تبدا بالظهور حرفا ، فحرفا .. كلمة ، فكلمة .. عبارة، فعبارة .. حكاية ،فحكاية .. حتى يقلب الصفحة ، فتعود محواً بانتظار قارئٍ جديدٍ !

صفحة بدون رقم / (صورة عريسين) #

لقد عاد يا أمنا الكويت… لقد عاد ، بعد ان اخترق النيران التي اشتعلت من ابار النفط المحترقة . لم يستطعْ احدٌ ان يقف بوجه ذلك العاشق الاسمر؛ سعد ابنكِ ؛ الذي تربى في ارضكِ ، و قضى اجمل أيام شبابه يناجي بحركِ.

سأله ابو نورا بمحضر من أمه و خالته :(خبرني شلون طلعت من هذا الموت الحمر ؟ ) لم يحب ان يقص عليهم شيئا مما حدث الا بحضور نورا . سال عنها ، فاخبروه انهم لازالوا يبحثون عنها في سجون التعذيب السرية التي اقتيدت اليها مع باقي  المتهمين بالعمل ضمن خلايا  المقاومة. لكنه بعد الحاحهم ان يقص عليهم ما حدث له ، بدأَ بالحديث عن الاحداث المرعبة التي واجهها ، مبتدئاً بعبوره للنهر اثناء قصف الطائرات الأمريكية ، و غرقه لولا عناية الله التي ارتفعت به من قاع النهر الى الجرف . نتيجة لارتطام صاروخ هز قاع النهر فارتفع به تيار النهر بفورة من ذلك الانفجار الى الجرف , ( معجزة والله معجزة ! اكيد وقتها كنتِ تدعين لي يا أمي .. يا أم الوفا ! ). اعتقلوه بعدها في شاحنة؛ تم حشره فيها مع العشرات من الاشخاص المنتفضين ضد النظام ؛ لكنه هرب قبل ان يقوموا بإعدام بقية المعتقلين . اخذ بالركض حتى وصل الى افراد مخيم عشيرة عربية في البادية القريبة من الزبير . فقاموا بمساعدته في عبور الحدود الى الاراضي السعودية عبر طرق التهريب ، التي كانوا يستخدمونها لتهريب الأغنام . ثم  استطاع دخول الكويت مع بعض عناصر المقاومة ، الذين تبادل معهم التهنئة على تحرير البلاد.

ترك كل اصحابه ورفقاء الأمس يحتفلون بالعودة الى بيوتهم و عودة وطنهم اليهم . وجلس وحيدا أمام البحر ، يناجي محبوبته التي غابت كأميرة عن حفلة  تتويجها . غابت البطلة التي ضحت بحياتها ، (لا ..لا ، ما  فقدت حياتها… لا ما اتخيل ابد .. الكويت بدون نورا مو ديرتي ! )

بعد ان انهى دراسته في كلية الأعلام  انخرط في  التغطية الإعلامية لكل المهمات ، التي قامت فيها فرق الادلة الجنائية لفحص رفات الأسرى المختطفين. والذين تم إعدامهم ودفنهم في مقابر جماعية في مناطق صحراوية مختلفة داخل  العراق . فخلال الفترة من 2003 و لغاية 2019 و على مدى ثماني عشْرة سنة كأملة . رافق بعثات الادلة  الجنائية ، التي قامت بزيارات دورية الى العديد من المقابر الجماعية . و رفع رفات وهياكل عظمية من عدة مواقع في العراق . شملت مناطق في الزبير والبصرة والقرنة والناصرية والعمارة والسماوة وكربلاء وبغداد والرمادي و نينوى . ومقارنة نماذج  الحامض النووي  DNA  لما يقارب ( 602) ست مئةٍ واثنين من المفقودين الكويتيين . كان يحوم كالمجنون حول رفات الضحايا ، يصور ، يجري مقابلات صحفية ، يقوم بنشر تقارير . لكنه في كل مرة لا يتم فيها العثور على رفات نورا، ينتحي بعيدا في الصحراء التي تضم رفات الضحايا و يبكي بحرقة . و حينما اخذ زملاؤه بافتقاده كل مرة ، فانهم لم يجدوا صعوبة في اكتشافه  يبكي وحيدا منزويا خلف احدى التلال . لم يكونوا يسالونه عن السبب . فقد اضحت قصته معروفة لدى كل بعثات التفتيش و الفحص ، التي ترسلها ادارة الادلة الجنائية. فاخذوا يطلقون عليه لقب (عاشق البطلة الاسيرة ) !

في المرة الاخيرة ، التي رافقهم فيها للبحث في احدى المقابر الجماعية في بادية السماوة في منطقة ليست ببعيدة عن سجن نقرة السلمان. وجدوا (32 ) اثنين و ثلاثين رفاتاً مطابقة لمفقودين كويتيين . كان قد مر على إعدامهم تسعٌ و عشرون سنة . لم يكن من السهولة استخراج رفاتهم التي دفنت على عمق  خمسة أمتار. لاختلاط اجسادهم المتحللة بالرمل ، و تصلبها مع  الصخور المعدنية . لكنهم في النهاية استطاعوا تمييز الحامض  النووي لهم ، و اعلنوا اسماءهم . فكان النطق باسم نورا ، موعدا لانطلاق دموع سعد .  فقالها من قلبه : ( الحمد لله اليوم ردت نورا للديرة !) لم يدرك اعضاء البعثة هل كانت دموعه و كلماته تعبيرا عن الفرح او الحزن ، الذي انهى به قصة حب لم يبح به لمحبوبته الا وهي رفات في قبر جماعي . فلم  تحضنه روحها الا  حين فارقت روحه جسده  الممسك بقارورة حامضها النووي DNA !

في اليوم التالي ، نشرت صحيفة كويتية مشهورة في صفحة المناسبات  صورة لزواج الشاب  سعد العاشق مع حبيبته البطلة  الشهيدة نورا بعد رحلة مضنية  قضاها في البحث عنها للبوح له بعشقه السري الذي اصبح مثار احاديث ( ديوانيات الديرة ) . كانت الصورة المنشورة لشابين في مقتبل العمر ، للعاشقين حينما ودعا بعضهما اثناء حرب التحرير قبل تسعٍ وعشرين سنة . لم تكن صورة مركبة بالفوتوشوب  بل كانت صورة من صور كتاب المحو الذي تلتقي فيه أرواح الاحياء و الأموات، حينما يجمعها الحب . فلا يعد هناك حاجز يفصلها الا برزخ وهمي لنسائم الزمن الرقيقة وهي تتنفس حينما نقلب الصفحة ، فتمحى الصورة …

صفحة بعدة ارقام مختلفة (صورة غريق على ساحل بحر ايجة) #

(( كوابيس كيرونا  التي حلمنا بها يا مسعود كاكا علي تحولت الى حقيقة باثر رجعي ! هل تسخر مني ؟ انت الذي في المرآة ، يأمن تجلس الان خلف الحاجز الزجاجي ، ولا أراك ، لأنك لست موجوداً الا في خيالي او في منطقة لا يدركها بصري او عقلي . الان، كيف يمكنك ان تجعل الزمن ينحني و تجعل الحلم الذي شاهدته في ماضي مستقبلك يؤثر على حدث شاهدته في مستقبل ماضيك؟ لعلها لعبة لغوية فقط ! فهما متطابقان زمانيا ومختلفان في المكان فقط ؟ صح ! فكر قليلا و اجبني. ان كنت ماتزال تملك الفطنة في حل الالغاز والاحاجي. …)) كانت تخاطب روحه التي ترفرف حول جسده الملقى على ساحل بحر ايجة بعد غرقه مع مجموعة من المهاجرين ؛ المبحرين من  الساحل التركي الى اليونان ؛ اثر انقلاب زورقهم المطاطي . كانوا قد اتفقوا مع بعض المهربين على نقلهم بواسطة يخت سياحي الى اليونان . لكنهم فوجئوا عند وصولهم للساحل بإخراج المهربين لأسلحتهم الكاتمة للصوت وتهديدهم بتسليم كل ما يملكون من نقود ، ثم اجبارهم على الصعود الى الزورق المطاطي الذي ابحر بهم في عباب الموج المتلاطم . كان الزورق مكتظا  بالأجساد المتعبة و المرتجفة من البرد . كانت ليلة حالكة الظلام هجمت فيها وحوش الشر البشري التي اسلمتهم لهذا القدر الاسود . غفا مسعود من التعب احتشدت في مخيلته كوابيس ليلة يأجوج ومأجوج … ((…رأيت روحي داخل الاناء الصغير فاغرق في أمواج بحر كبير و تجرفني أمواجه ، ابحث عن أمنية في كل أمواج و شعاب البحر المرجانية و كهوفه الخفية في الاعماق لا اجد شيئا سوى المحارات الصغيرة تدخل في فمي فأخرجها و اعشاب البحر تسد فتحات انفي وتحجب الرؤيا عني . احاول ان اصعد الى السطح . المياه يزداد لونها دكنة و رائحتها عفونه . احس بدبق يجتاح جسمي .اصل الى السطح كل سطح احمر دموي .. ادرك اني اسبح في بحر من الدم .. ارى راس أمنية و قد طفا على السطح ايضا لكنه بلا جسد .. اصرخ باسمها .. اصرخ .. أمنية … أمنية … أمنيتي …. اخيرا يجيبني صوتها من قاع البحر: انا و كل الغرقى سنسكن قاع البحر الى الابد .. انج بنفسك … اخرج من الحلم قبل ان نغرق معاً ، استيقظ …. استيقظ …)) كانت روحها تصرخ بجسده استيقظ .. استيقظ .. لم يكن قادرا على الاستيقاظ ، استمر في حلمه البرزخي ليلتقي بأمنية و هي تبتسم له من خلف حاجز زجاجي شفاف كبير بحجم البحر او السماء . لم يكن باستطاعتهما ان يتلامسا . لكنهما وضعا  اصابع  يديهما ؛ كلا من جهته ؛ تطابقت  الاصابع العشرين … قبل يدها من خلف الحاجز الزجاجي الرطب ، كانت القبلة ذاتها في ساحة اربيل حين  وضعت يدها على فمه وقالت له :((   لا تذكر الموت ابداًّ !  )) … قطف لها وردة حمراء من فم الموت .. فلم تكن الورود تزهر شتاءً في ساحة اربيل…. شم عطرها بقوة … غرسها في شعرها الكثيف من جهة اذنها اليسرى. ابتسمت له…. أمسك يدها بقوة ، ومضيا نحو السماء …

صفحة تتفرع منها عدة صفحات (صورة صبي محروق الجسم بجانبه دمية بدون يدين و قدمين) #

(( وددت لو كان حلما مزعجا أو احتمالاً صعب التحقق من احتمالات كتاب المحو التي حدثني عنها بصير القرية  في أيام صباي! )) هكذا حدث الصبي المحروق نفسه حين كان يرقد في مستشفى الاهواز بعد الهجوم بقنابل النّابالم على قريته. يَئِسِ من السؤال عن عائلته ، فلم يتبقَ احدٌ منهم . وحتى رفاقه لم ينجُ منهم الا القليل الذين احترقت اجسادهم ، وها هم يشاركونه المصير المجهول. هل سيتم انقاذهم و خروجهم من المستشفى بعد ان تشفى حروقهم بلمسة من يد طبيب ماهر او ملاك يرسله الله او يد أم تأتي من عالم البرزخ ببخورها و تمائمها و ادعيتها الدافئة بحنان قدسي افتقده هذا العالم المليء بالحقد والقسوة. كان يتكلم بصوت عال محدثا نفسه عن اسرار كتاب المحو وقدرته العجيبة على تغيير مصير الانسان وشفائه من اوجاعه و خلاصه من مآسيه اذا أمن الانسان بمحبته لله. ( سوف ينور الله دربك .. يا بني .. لا تخشَ شيئاً .. كل ما سوف تراه سوف يكون خيرا لك .. لا تشك ان الاله ارحم من والديك عليك ..) كانت تزوره كل ليلة في أحلام يقظته لترقيه بهذه الكلمات ..، التي لم تمنعه من الهذيان بصوتٍ مسموع …لماذا انا .. لماذا نحن من حصلتْ لنا ، و تحصل كل هذه الأمور الفظيعة ؟.. كم من البشر السعداء الاخرين في العالم ؟.. كم من الاطفال يلعبون الان في الحدائق الخضراء لبساتينهم و يمرحون بدِفءٍ في احضان أمهاتهم ؟.. لماذا اختايّ الان في برد حفرة عميقة لمقبرة جماعية .. محترقتا  الجسد من النّابالم ؟ .. لعل أمي تحتضنهما الان في الحفرة ولعلهما بعيدتان عنها تقبعان في الاسفل تحت أقدام احد الفلاحين الخشنة .. او ان جارنا البدين قد سحقهما ببطنه المنتفخة …) كان يهذي بكل تلك الصور البشعة. فيجيبه الرجل العجوز الراقد في السرير المجاور (( استعذ بالله من صور الشيطان .. الشيطان يريد ان يحرق قلبك كما حرق صدام وجهك .. لا تستسلم لصوره .. اخلق صورك بوحي من تطلع روحك في كتاب المحو .. سوف تجدها في اخر نفق هذا الليل .. قريبا من الفجر .. تضيئ ..تتوهج … التقطها .. ضمها الى صدرك … ولا تخبر احدا عنها … فهي قدرك الذي أذخره الله لك وحدك دون بقية رفاقك ….)). كان يظن ان معلمه الروحي بصير القرية هو من يرقد في السرير المجاور، مؤنسا اياه بصوته الحزين. لكنه حين كان يستيقظ من أحلام يقظته ، يجد رجلاً عجوزاً محترق القدمين ، سيئ المزاج ، لا يكف عن الثرثرة عن سوء خدمة المستشفى اذا ما تأخروا بإعطائه وجبات الطعام او الحقن المهدئة . كان كارها لأصوات الانين و الصراخ ولم يكن يطيق ان يشاهد مريضا يبكي . كان يُتمتم بصوت خافت و حانق يخرج من بين فكيه الخاليين من الاسنان ( موتوا بصمت دون صراخ .. موتوا بصمت مثل الرجال .. مثل الاشجار القديمة .. تموت وهي واقفة .. دون نحيب ). لم يكن يطيق سماع هذيان سعيد ، فكان يقاطعه ساخرا : (( والله ، اقولها الف مرة ، اذا قُدِرَ لهذا الصبي ان يعيش فسيكون المتحدث الرسمي باسم الشيطان! )).

بعد أيام حين زار وفد من البرلمان الاوربي ردهة الحروق التي يرقد فيها الهاربون من جحيم النّابالم . تفقدوا الردهة التي كانت مكتظة بالآهات و الاجساد الملفوفة بضمادات الحروق . توقفوا بشكل مطول عند سرير صبيٍّ صغير عمره عشر سنوات . اخذوا بالكلام فيما بينهم بالإنكليزية  تارة و بالفرنسية تارة اخرى. قدموا هدية للطفل المحروق دمية صغيرة . التقطوا الكثير من الصور الفوتوغرافية معه. ثم قدموا لباقي المرضى اكليل زهور بلاستيكية لكل منهم. لم يتبقَ لديهم غير اكليل زهور واحد و دمية واحدة . قدموا زهوراً بلاستيكيةً للرجل المسن في السرير المجاور له. و وضعوا الدمية عند راسه. وودعوهم متمنين لهم الشفاء العاجل.

بعد بضعة أيام ، عاد احد الرجال الذين كانوا مع وفد البرلمان الاوربي وقيل انه من اللوردات الانكليز و اخذ الطفل الصغير معه وسافر الى بريطانيا لعلاجه . بقي الصبي سعيد البصري ذو السبعة عشر عاما في الردهة لثلاثة أيام اخرى. نقلوه بعده الى غرفة العناية المركزة بسب تسمم اعضائه المحروقة . استمر يهذي دون ان يقدر على ابتلاع اي طعام او شراب الا بعض المغذيات الطبية. جاء مجموعة من الصحفيين الذين رافقوا الوفد البرلماني الاوربي التقطوا له صورة اخيرة. ظهر في الصورة مُسجّاً على سريره ملفوفا بالأغشية الطبية. بقربه دمية صغيرة  مقطوعة اليدين و القدمين . اشار اليها قبل ان يتوقف نبضه وقال بصوت متلعثم اقرب الى الهذيان : (ادفنوها معي …سأعطيها لأختيّ … اشتقت لهما!)

صفحة اخرى متفرعة عن (صورة الصبي المحروق) #

كان بصير القرية يُحذِّر صبيان القرية من المشي في الطرق التي لم  تطؤها أقدام ممهدة للسلوك فيها . فقد يسكن تحت تربتها المكسوة بالحشائش الغضة لغم ارضي قديم ؛ لم تطأه قدمٌ لكائن متحرك؛ فينفجر تحت القدم التي سوف تبعثه الى الحياة ليميتها ! واكمل درسه معلمهم الحكيم : ( وهكذا يا احبائي ترون ان من يسلك طريق الافكار المنحرفة التي لم تمهد لها العقول الحكيمة الراشدة  ، سوف يعرض روحه لخطر مميت ، كما هو المثل الواقعي الذي ضربته لكم عن الالغام القاتلة !)

انصرف عن حلقة الدرس باقي الصبيان الا سعيد ، فقد مكث ساعة جالساً ، متأملاً كلام استاذه ، الذي سأله :

ما الذي يشغل بالك يا سعيد ؟

اسئلة كثيرة تزدحم في عقلي و قلبي و مخيلتي ؟

هاتها ، فأسئلة العقل هي غير اسئلة القلب وهي مختلفة عن المخيلة . فانت تملك نفوساً متعددة . فكما تعرف ان نفسك الحيوانية هي  غير نفسك الكونية و هي غير نفسك القدسية ، فأي سؤال له ثلاثة اجوبة ، بل له اجوبة لانهائية بعدد النفوس السائلة . فالجواب قد يكون صحيحا لنفسٍ ، لكنه لا يعد كذلك لأخرى.

– ان سؤالي بسيط ، فقد قلت يا استاذي ، ان كل فعل يختاره الانسان يحتمل الصواب او الخطأ اي الخير او الشر . لكن كل قدر يقدره الله علينا لا يحتمل الا الخير لنا. فاذا اختار الله لنا ان ينفجر اللغم علينا دون ان نختار المسير في الطريق الخاطئ ، فأي خيرٍ في هذا الأمر لنا ؟

– ان سؤالك ليس بسيطا ، بل يحتاج الى فهم عميق ودقيق، و لكني سأبُسط لك الجواب بمثالٍ واقعيٍ . لنفترض ان الخيار كان متروكاً لي في اليوم الذي فقدت فيه بصري فهل سأختار انفجار الالغام عليّ ؟ الجواب هو كلا،  فقد كان  فهمي محدودا للسعادة الروحية. فوقتها كان معنى السعادة بنظري هو ان اعيش حياتي الدنيوية مستمتعا بلذة البصر و اتسلى بالدنيا كباقي البشر. لكن إرادة الله خططت  لإنقاذي و جعلي معلما لك ولباقي الصبيان. فهيأتْ الالغام لتنفجر عليّ ، و جعلتني اترك ملذات الدنيا ، لأني ما عدت اراها بعيني فلم تعد  تفتنني . فكنتُ سبباً لفتح باب بصيرتكم ، فأصبحت واعيةً لمعنى وجودكم الحقيقي ، دون ان تعانوا اختبار فقدان البصر.

تقصد ان القدر الالهي له طريق لا نبصر خيره الا بعد أنْ نمر بالتجربة المؤلمة ؟

نمر بتجربة الألم و الفقدان و نتقبلها  كأفضل خيار وهبه لنا الله من خيارات كتاب المحو. فلو تركت الارادة الالهية لنا الخيار فلربما اخترنا مشاهدة صور صفحة ربما تؤدي بنا الى ضياع ارواحنا في متاهة لانهائية. كما حصل للعديد من الارواح التي اعتقدت انها تستطيع تحقيق السعادة الدنيوية ، لكنها خسرت المعنى الحقيقي لإنسانيتها. فتاهت في ممرات مكتبة بابل التي هي المتاهة المصغرة للكون ولم تجد غايتها.

حين مضى سعيد البصري في تلك الليلة الى داره لم يكن في باله انه قد وصل الى الغاية النهائية التي بإمكان روحه  الوصول اليها . وان التجربة المؤلمة الاخيرة التي عليه ان يقرأ سطورها  في صفحته بكتاب المحو قد اقتربت.

نأم على صوت الطائرات التي عادت للتحليق في السماء بعد ان هدأت خلال الاسبوع الماضي . سأل أباه عنها . فاخبره انها طائرات التحالف عادت لضرب قوات النظام ، التي خرقت شروط الهدنة عند قصفها للمدنيين العزل .

لم يستطع النوم. بقي مستلقيا في حديقة المنزل. مفكرا في كلأم بصير القرية . غفت عيناه لدقائق وربما كان يشاهد حلما من أحلام يقظته. شاهد جسداً يغلي قرب النهر لم يُعرَف وجه صاحبه . كان يراه وقد اشتعل جسده من اثر سائل اصفر يغلي محدثا فقاعات ساخنة على كل جسده. صرخ …(( اي قدرٍ هذا ..هل ابتدأت ساعة ابتلائي .. هل علي تقبل الالم والفقدان .. اين ابي وأمي .. اين اختايّ الصغيرتان .. كنت احاول اصلاح دميتهما البلاستيكية التي انخلعت ساقاها ويداها ، لأنها كما ادعتا ضاحكتين ، قد داست على لغم!)).

حين فز من حلم يقظته ، كانت القرية اشتعلت حمماً ملتهبة بسقوط قنابل النّابالم في كل مكان .. صوت الطائرات يصم الاذان .. اطلاقات نار .. صراخ اطفال ونساء .. كان يحس ان جسده ينفجر من الحرارة … ركض .. ركض .. اهله بقوا في البيت المحترق .. لم ينجُ منهم احدٌ .. وحده فتح باب الدار … بقي يركض .. يركض .. يريد ان يصل الى النهر سلك طريقاً مختصراً … قبل وصوله الى  النهر بأمتار قليلة .. اطبق اللغم على قدمه كانه فك مفترس لسمك القرش .. كف قدمه انفصلت عن جسمه المتلطخ بالدم .. لم يهتم كثيرا بالألم و ببتر قدمه .. فتح عينيه هذه المرة و نظر الى الماء .. الوصول اليه خلاصه من الحرق .. البقاء هنا يعني الموت .. بكى فلم يعد قادرا على المشي .. حاول الزحف لم يقدر … كأن اللغم قيّد جسده بالأرض .. نظر الى السماء .. كانت مليئة بالغيوم السوداء و بالطائرات .. بكى … تمنى لو انه حلم من أحلام شاطئ الأحلام الذي عشق زيارته مذ كان طفلا حين ذهب بصحبة ابيه الى جزيرة أم الرصاص …. كان ماء شط العرب هائجا والقمر احتجب خلف الغيوم .. حلت ظلمة سرمدية … استمر في حلمه المتكرر .. و لم يستيقظ الا على صوت روحيّ اختيه الصغيرتين وهما تضحكان ، محلقتين فوق حفرة عميقة دفنت فيها اجساد كثيرة لأهالي القرية …. قالتا له : ( هل اصلحت دميتنا ؟ سوف نحتاج لها فأمامنا دهرٌ طويل لنقضيه معاً ، ايها الاخ الحبيب!).

وردتني الكثير من اسئلة المتصفحين الاعزاء ، يتساءلون عن شخصية الاب الذي ابحث عن قاتله ؛ من قتل ابي ؟ وانا اذ لا افضل الاجابة عن هذا السؤال الان ، لسبب لا يعتمد على نصائح كتاب الروايات البوليسية. و لكن لهدف جوهري يرتبط بعدم تسهيل مهمة كشف شخصيتي لنفس الجهات التي قتلت ابي . فقررت ان اكشف الاجوبة في صفحة الاسئلة المتكررة  التي سأنشرها بعد الانتهاء من نشر المدونات. وعندها ربما لن يكون مهما جدا اذا قمت بالكشف عن شخصيتي. اذ اني سأكون واحدا من ملايين الناس الذين يعرفون من هو القاتل. وسيكون عليهم وقتها أنْ  يقتلونا جميعا ! وهذا سر الانتفاضات الجماهيرية ، التي تضم الملايين من الناس دون وجود قادة محددين. فقتل اي شخص منهم لن ينهي الموضوع ابدا !

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *