الابحار الثاني – رسائل الرمال

مدونة مسعود كاكا علي / 02 ، ايلول ، 2003 / لندن

حين خرج سعد الاعظمي من منزله في الكويت ليساهم في تحرير وطنه و اهله لم يكن يعلم انه سيغدو بلا وطن وبلا منزل و بلا اهل لفترة طويلة من حياته القادمة. ودَّع جذع النخلة الذي ادمن الجلوس عنده طيلة سبعة أيام  قضاها في قرية جرف الملح ضيفاً عند عائلة صديقنا الجديد سعيد البصري بعد هروبنا سوية. كنت لا أزال مصابا برصاصة في قدمي بعد ان نجونا  بأعجوبة من الموت ، فقد ظن الجنود انهم اعدموا كل المعتقلين . غادروا مسرعين بعد ان رموا الاجساد المضرجة بدمائها في حفرة كبيرة و اهالوا التراب فوقها على عجل. لكني كنت مع بضعة من الناجين و المصابين  الذين كتموا انفاسهم حتى مغادرة العربة العسكرية ، ثم خرجوا من بين كومة الاجساد… كما يخرج الأموات من قبورهم ؛ ثيابهم ممزقة ؛… تملأُ انوفهم رائحة البارود و الدماء و الموت … يصرخون بكلمات غير مفهومة … فمنهم من يلعن قدره … ومنهم من يحمد ربه ان منحه فرصة ثانية ليعيش … ومنهم من يصرخ بألم و وحشية ، هام على وجه كوحش مرعوب أَطلق سراحه دون ان يعي ما يقول ! ركضنا بجانب الطريق الاسفلتي الفارغ حتى سقطنا على الارض من الاعياء . وقتها احسستُ اني  مصاب في اعلى فخذي ، لكن الرصاصة  يبدو انها لم تصب العظم لحسن حظي . أمسكني شابان من كتفي وركضت معهما حتى أوصلاني الى بيت صغير في منطقة ريفية ، هو بيت صديقنا الجديد سعيد البصري الواقع في قرية جرف الملح ، التي كانت تعيش في تلك الأيام حالة اضطراب كبيرة لم تشهدها من قبل. 

حدثنا سعيد بفخر عن تاريخ قريته زاعماً ، ان اجداده شرعوا باستصلاح الاراضي التي كانت تقع على تخوم مقالع الملح ، المنتشرة على طول الشريط الحدودي، المرتسم كانه بحر ابيض يسطع تحت شمس محرقة. ولهذا سُميت بـ . حيث يحدها بحر الملح من جهة و نهر صغير يتفرع من شط العرب من الجهة الاخرى ، التي تنتشر فيها الاراضي الزراعية الخصبة المشهورة بزراعة انواع اشجار النخيل البرحي و الزهدي و اشجار السدر والعنب و محاصيل الحنطة والشعير و انواع الخضروات الموسمية. حين كانت خطوات سعد تتسارع مبتعدا عنا، تأملتُ في الجهة الاخرى من النهر الصغير … كانت صحراء من الملح المتكلس فوق ارض طينية تمتد حتى الحدود حيث يتلاشى عندها خط الافق مع السماء البيضاء فلا يُعرف هل هو انعكاس للملح الابيض تحت اشعة الشمس الحارقة أم هو سراب يظهر كانه ماء مُدغمٌ مع بياض السماء ؟ سالت سعيداً كيف لهذه البساتين المثمرة ان تكون محاذية لصحراء الملح من الجهة الاخرى للنهر دون ان تتأثر بالجرف الملحي ؟ اجابني ان السر يكمن في عذوبة المياه و تدفقها المستمر خلال مواسم السنة ، فهذه الارض لن تموت لأنها شبه جزيرة تحيطها المياه. لوح سعد لنا بيده كوداع اخير .. لم يكن يستطيع ان يرجع الى الكويت فقد أُغلقتْ الحدود من قبل القوات العراقية . فاصبح ملاذه الوحيد هو الوصول الى الخط السريع لمرور السيارات؛ الرابط بين مدينتي البصرة والناصرية؛ حيث القوات الأمريكية  قد وصلت الى قاعدة الأمام علي الجوية. و ربما سيفلح في تسليم نفسه لهم ، و اقناعهم بإعادته الى الكويت !

بعد عدة اشهر وصلتني رسالة من مخيم رفحاء مُرسلة من سعد. استلمتها بواسطة احد اصدقائي. فقد كنت وقتها في اربيل احاول الحصول على فرصة الى الانضمام الى احدى الجامعات هناك لأكمل دراستي الجامعية التي تركتها بسبب اجباري على الالتحاق بالجيش بعد اسابيع قليلة من بدء الغزو الغاشم للكويت.

 

((اخي الحبيب مسعود كاكا علي … لقد كنت محظوظا حين جمعتني الصدفة بأحد الجنود العراقيين الاكراد  الذين سلموا انفسهم للقوات الأمريكية. وهو من مدينتك مندلي . فحينما ابدى استغرابه من لهجتي الكويتية ، قلت لي اني ولدت وعشت في الكويت ، فاخبرني عن صديق له تعرف عليه اثناء خدمته العسكرية  اصله كردي ،لكنه تربى في جنوب العراق و يتكلم اللهجة العراقية الجنوبية بدلا من الكردية. فلما سالته عن اسمه ، ذكر اسمك. فرجوته ان يصل برسالتي اليك عبر اقارب له في كردستان. سأكون سعيداً جداً ، لو تفضلت بالجواب على رسالتي بأسرع وقت ممكن .))

كان أمرا رائعا ان اتواصل مع سعد عبر الرسائل التي ينقلها مكتب اللاجئين التابع لمنظمة  الأمم المتحدة. رسائله في البداية تمحورت حول  الاوضاع الصعبة في رفحاء و المشاكل التي يواجهها لأقناع المسؤولين ، انه مدني كويتي ، لكنه يحمل الجنسية العراقية . كان طلبه الوحيد ان يعيدوه الى مسقط راسه ؛ الكويت. لكن دون جدوى ، فهو في نظرهم مواطن عراقي لا يحق له ذلك . ارسل الى اهله في الكويت رسائل عديدة، لكن دون جواب منهم ! فقد كانوا يخبرونه انه لا يوجد من يحضر لمكتب الهجرة IOM التابع الى منظمة الأمم المتحدة لاستلامها . لم يتبقَ له سوى والدته و زوج خالته ؛ أبي نورا ؛ فهو يحمل الجنسية الكويتية . و ربما باستطاعته مساعدته في العودة للكويت كونها مسقط راسه والبلد الوحيد الذي عاش فيه طوال عمره . طلب مني ان اساعده في ايصال رسالته الى أبي نورا. فطلبت من احد الاصدقاء السوريين ؛ الذين يعملون في مجال السياحة و النقل البري ؛ ان يطلب من معارفه من الكويتيين ان يتوسطوا لإيصال الرسائل من اسير كويتي ضحى بحريته من اجل تحرير الوطن الى اهله داخل الكويت. وقبل ذلك ، طلبت من سعد ان يسمح لي بقراءة الرسالة ، لكوني سأكون المرسل الرسمي لها . و بعد ان ابلغني بموافقته ، قرات الرسالة ..

أمي الحبيبة …

اكتب لكِ يا اجمل أم في العالم  ، كما يجب ان يشعر كل ابنٍ ، ان أمه هي اجمل أم في الدنيا . لعلكِ  الان  تفتقدين من يقول لك كلمة : ( يمة )  ! او مثلما كنتِ تحبين ان تسمعيها  ؛ كما ينطقها اهلكِ في بغداد ( يووم !). انا ايضا افتقد حضنك الدافئ و ملمس اصابعكِ حين اضع راسي  بحضنكِ و تعبثي بشعري . لا تخبريني ان الدموع تملأُ عينيكِ كل ليلة قبل ان تنأمي ، حينما ترينَ وسادتي فارغة و سريري مرتباً على غير عادته . فانا مثلك لا انأم الا و الدموع تسهر في عيوني حتى الصباح ، معانقة اجفاني ورموشي و مرطبة لأحلامي الجافة المؤوبة برمال الصحراء المحرقة. دموع اخفيها في النهار عن باقي الناس من الرجال الخشنين والقساة هنا، في هذا السجن الصحراوي الكبير. لا اريد ان اُخيفك عليّ فانا لم ازل ذلك الابن الذي احسنتِ تربيته. ربيتيه كما يجب ان ترعى أم فقدت زوجها ولها منه طفل وحيد. فهو في البيت طفلها المدلل وهو خارج البيت رجلها و سندها الوحيد .له من الشجاعة ليتحدى اصعب الظروف و اعتى الرجال وله من خفة الدم والمشاعر الرقيقة ما يجعله محط انظار نساء( الديرة ) و عشق أمه وولهها و افتخارها به. لن اتغير يا أمي مهما سأواجه من القسوة والحرمان و الخوف.

لن اطلب منكِ ألّا تنسيني او ان تدعو لي فانتِ  تفعلين ذلك في اليقظة و المنام. وحتى النسيان سوف يذكركِ بي، و يقسو على قلبكِ بالعتب ان حصل لبضع دقائق ! فانا ثمرة فؤادكِ كما تسمينني دوما ، و الفؤاد لن ينسى ما بداخله حتى لو ابتعد عنه الاف الأميال .

الحياة هنا رتيبة و هادئة فانا اعيش في عزلة رغم وجود اجساد الاخرين. ليس لي من سلوى سوى ذكراكِ و ذكرى من احب من اهلي في الكويت الحبيبة . اتمنى لو ارجع بأسرع وقت . قدمت طلبا الى الأمم المتحدة ، لكنهم رفضوا طلبي لأني لا أملك اوراقاً ثبوتية بعدما اخذوها مني في العراق .فليس لدي ما يثبت ولادتي أو وجود اقارب لي من الدرجة الاولى في الكويت . ارسلت لكم عدة رسائل عن طريق مكتب الهجرة واللاجئين، لكن لم يردني اي رد.

انتِ أملي الوحيد يا أمي الغالية، فأرجو ان تذهبي لمكتب الأمم المتحدة في الكويت و تقدمي لهم شهادة ولادتي و نسخة من اقامتكِ واقامتي السابقة و اطلبي من عمي ( أبي  نورا) ان يساعدك ِ فهو نعم المربي الحنون. سلامي الى خالتي والى ابنتها العزيزة نورا.

ارجو ان تراسلوني. عنواني ، كما يلي: ( القطاع رقم 34 ، مخيم رفحاء / المنظمة العالمية للاجئين التابعة الى منظمة الأمم المتحدة / المملكة العربية السعودية .)

– ابنكِ المحب، سعد زيدان –

بعد مرور ثلاثة اسابيع تقريبا ، اعاد صديقي السوري الرسالة اليّ . فقد ابلغه  الرجل فاعل الخير الكويتي ؛الذي تبرع بنقل الرسالة ؛ ان والدة سعد قد توفيت قبل ستة اشهر على اثر اصابتها بسكتة دماغية مفاجئة.

ارسلتُ برقية تعزية الى سعد بوفاة والدته.

بعد قرابة الشهرين ، وصلتني من سعد رسالة ثانية ، طلب ارسالها الى الكويت على نفس العنوان السابق. فتحتها و بدأت بقراءتها :

أبي و عمي الغالي أبا نورا المحترم ..

انا سعد زيدان. ابنكم الذي ربيتموه و ابن اخت زوجتكم ؛خالتي سلمى. انا حاليا في مخيم رفحاء في المملكة العربية السعودية. فقد تم نقلي اليه من قبل القوات الأمريكية في العراق ، بعد ان نفذت عملية سرية وبطلب من خلية المقاومة ، أسهمت ؛ ولو بشكل بسيط ؛ والحمد لله في المساعدة بتحرير بلدي الكويت.

عمي العزيز ..

لقد بلغني خبر وفاة والدتي رحمها الله ، ولقد نزل الخبر عليّ ؛و انا في غربتي ؛ كالصاعقة. فلا توجد كلمات في قاموس اللغة تعبر عن شدة المي وتحسرني اني لم اكن موجودا بقربها حين مرضها لخدمتها ومساعدتها . لكن، و يعلم الله ان الشيء الذي لايزال يبث فيّ العزيمة و الصبر هو وجودكم ؛ الله يطول بعمركم ؛ فانت بمثابة الوالد الذي افتقدته منذ طفولتي و لا انسى الحنان والكرم الابوي الذي اغدقت به على والدتي وعليَّ . فأرجو يا عمي العزيز ان تتصل بالجهات المسؤولة عن اعادة الاسرى الكويتيين لكي يتواصلوا مع مكتب الأمم المتحدة في الكويت ومنظمة اللاجئين الدولية IOM ، لكي يقوموا بأجراء ما يلزم لإعادتي الى ارض الوطن . فقد تم سحب كل اوراقي من قبل القوات العراقية اثناء محاولتي عبور الحدود للعودة للكويت. وقد انجاني الله بفضله ومنه من قبضتهم. وانا الان في معسكر رفحاء في اسوأ حال من صعوبة العيش و الاحساس بالغربة عن اهلي و ديرتي التي تربيت في احضانها.

ولكم كل الشكر والتقدير.                                                                                                                                            

ابنكم سعد ( الاسود)

بعد عدة اسابيع جاء الرد شفهيا على لسان صديقي السوري صاحب شركة السياحة بأنَّ ابا نورا بعد قراءته للرسالة طلب مني القول لصاحبها بأنَّ والدته توفيت ولذا لا  شيء رسمي يربطه  الان بالكويت الا اقامته المنتهية. أما بالنسبة الى صلة الرحم ، فانه ارسل مبلغا من المال مع الدعاء لله ان يفك اسره . وطلب تسلميه لابن المرحومة و الطلب  منه عدم ارسال رسائل اخرى. فالجو العام هنا في الكويت لا يرحب بالعراقيين المقيمين او الطالبين للمّ الشمل مرة اخرى. فالكثير من الأسر قد تفرق شملها بسبب حماقة الغزو. 

بعد ان اوصلت هذه المعلومات الى سعد، انقطعت اخباره لعدة اشهر. ثم وصلتني منه رسالة ثالثة ، قمت بقراتها على أمل معرفة اخباره …

ابنة الخالة نورا الغالية …

حين اكتب اليكِ رسالتي هذه فان يدي وهي تكتبها تحجب الكلمات التي اخطها ، وذلك يا حبيبتي ضرب من الحشمة ضروري ، شانك انتِ اذا كنت تدعين شعركِ الغزير المتماوج يحجب عينيكِ السوداويتين حين تتحدثين الي. حشمة اضطررنا اليها كوننا تربينا في بيت واحد ، حشمة حرمتنا من تبادل اعتراف الحب.

ولكني اليوم و بعد مرور سنة على اخر لقاء بيننا ، اعترف لكِ ؛من هذا المكان الموحش؛ بان كل ما فيك كان يهزني من الاعماق . رغم ان كل شيء كان يحول دون ولادة هذا الحب . وليس بغريب عنكِ ، اني كنتُ افقد شجاعتي في البوح حين انظر الى وجهكِ الساذج المليء بالأسرار الطفولية التي يختزنها وكأنها علم خفي مجهول. كنت كعصفور عصبي يود لو يطير ويستجم في سماء حبكِ طليقاً ، لكنه  يفضل ان يبقى خلف قضبان قفصه ينظر اليكِ بحيرة و ارتياب من هذه المشاعر المكتومة التي تكاد ان تنفجر في صدره الصغير . هذا العصفور اليوم انتقل الى سجن كبير هو هذا المعسكر من السجن الاختياري الذي يمنعني من العودة اليكِ ، و هو أملي الاخير ايضا في العودة اليكِ . اليس في هذا التناقض سخرية للقدر، أدمنَّا عيشها معاً منذ طفولتنا . فقد كنتِ قريبة جدا مني ، و في ذات الوقت  بعيدة جدا  لأبوح لكِ بحبي . اراكِ كل يوم و اشتهي ان اناجيك كالعشاق لكني اكتفي بتبادل التحيات الخجولة او الكلمات المرحة التي تخفي اكثر مما تظهر من جرأةٍ . ما انتِ ايتها الروح الفاترة ؛التي لا تضطرم الا في خطرات؛ بشجاعة ولا انا بجريء ايضا ، في تلك الأيام التي خلت.

أما اليوم اذ تفصلنا الاف الأميال من الصحاري و القفار، فليس أمامي سوى تخيل شبحكِ الجميل و هو يزورني مساءً ، يصب لي كعادته قدحاً من الشاي و يذهب ساعةً ، ثم يعود ليسامرني حتى الصباح على نار الموقد الخافتة ، مستمعا لناي يصدر لحنا حزينا يزيد الروح لوعة و الجسم نحولا و النفس اشتياقا.

حين كنتِ تخاطرين بحياتكِ أيام حرب التحرير ، كنت مستعدا ان افديكِ بروحي لكي تبقي سالمة في مكان أمين . حينما كنتُ اطلب منكِ ان تجلسي في البيت و لا تعرضي نفسكِ للخطر ، كنتِ تضغطين علي بكل اوتار رجولتي حين تقولين لي: ( اذا رجال الوطن نأموا ، الحريم ما ينأمون والغاصب يتربص بهن ). التحقت بخلايا المقاومة دون ان اخبركِ. كي اكبر أمام عينيكِ كما أخبرتِني يوما بعد سماعكِ بالخبر . ترى هل لازلت كبيراً حين سمعتِ من ابيكِ اني اصبحت اسيراً بسب حبي لكِ وللوطن؟

لن اطلب منكِ ان تفعلي لي أيَّ شيءٍ ، بعد ان طلبت ذلك من ابيكِ. فارسل لي ؛ بدلاً من مساعدتي في العودة الى الوطن ؛ حفنة من الدنانير. التي تبرعت بها لعائلة عراقية منكوبة بفقدها لمعيلها الذي توفي اثر لدغة من افعى تسللت الى المخيم ، وما اكثر الافاعي و العقارب في هذه الرمال الملتهبة.

اكتب اليكِ .. من هذا الجزء الملتهب من الزمان و المكان ، فقط لأخبرك أنّ صديق أيام طفولتكِ قد اختبر لحظات الموت مرتين ، مرة في قاع نهر تتساقط عليه قنابل الطائرات ومرة اخرى أمام وابل رصاص رشاشات فصيل إعدام اطلقها في ظلام ليل فاحم كشعركِ و عينيكِ  يرصعه  قمر مشرق و مستدير كاستدارة وجهكِ الملائكي . لقد كبرت الف سنة وما عدت ذلك الفتى الخجول الذي يطلق الحسرات و يكتب الاشعار لكي يريكِ اياها متجنبا البوح باسم من يحبها ، وكنتِ تعرفين انها انتِ لكنكِ كنتِ تتعمدين افتعال السذاجة ! وفي ذلك خبث انثوي جميل ولعلي اشعر الان بحقد نبيل تجاهكِ يخالطه شعور من العتب و الاحساس بانكِ شاركتني في اضاعة اجمل أيام العمر التي قد لا تعود ابدا.

اكتب اليكِ و لا اطلب منكِ سوى ان تبادليني شعوراً قل مثيله  في هذا الزمن الاسود الذي تصاعدت فيه شرور العالم من حولنا كما تصاعدت اعمدة دخان القنابل و اعمدة دخان ابار النفط المحروقة. هل ما زالت الابار يتصاعد منها الدخان ؟ هل مازالت بقع النفط تلوث الشواطئ ؟ هل ماتزال أحلامنا تتبعثر مع الهباء المتصاعد نحو السماء دون أمل بالتحقق يوما ما؟

وانا مضطر ان انهي الرسالة لكي لا تكون عبئا على من يحملها ويوصلها لكِ فاني اقدم اعتذاري الصادق عن الطريقة التي سلكتها في ايصالها لكِ ، فلم تترك لي  الحكومات و ابوكِ خيارات متعددة. و اقدم اعتذاري مجددا على الجمع بين الحكومات وبين ابيكِ مع الفارق.

تحياتي القلبية لك ِ بحياة مديدة سعيدة مليئة بكل حب و أمل.

المحب ابدا ( سعدكِ )                                                   

كان العنوان المرسل اليه هذه المرة مختلفا فهو منظمة نسائية كويتية ، كانت نورا عضوا فعالا فيها ، وقد استخدمتها كغطاء لتحركاتها أيام التحرير. لتمرير المعلومات الى القيادة الكويتية في المنفى ، و اعادة التعليمات الى الخلايا ، و بث روح الحماس و الهمة بين الشابات و الشباب المساهمين في خلايا المقاومة . اوصلت الرسالة عن طريق البريد المسجل  وكتبت عنواني فلم يكن مناسبا ان يطلع عليها طرف ثالث غير سعد و حبيبته. جاء الرد من المنظمة النسائية بعد اسبوع بان المنظمة تقدم لكم التعازي  باستشهاد البطلة نورا اثناء تعذيبها من قبل الاستخبارات العسكرية للقوات المحتلة ؛ بعد اخفائها لمعلومات سرية ؛ والقبض عليها  وهي تحاول تبلغيها الى خلايا المقاومة السرية اثناء عمليات  التحرير.

كان الخبر صادما لي فكيف سيكون وقعه على صديقي المسكين ، فقد كانت نورا أمله الاخير. لم يكن لي مناص من تبليغه الخبر المفجع ، فالعيش على أمل كاذب اصعب من فقدان الأمل !

لم تأتِ منه أيَّةُ رسالة لمدة عشر سنوات كأملة لكنه في منتصف عام 2003 ؛ بعد الاجتياح الأمريكي للعراق ؛ وصلتني رسالة منه. كنت وقتها في السويد استعد للذهاب الى لندن. الرسالة هذه المرة الى خاله في بغداد ، الساكن في الاعظمية قرب احد الجوامع المعروفة هناك ، لم يكن هنالك بريد يصل الى بغداد في تلك الظروف فأعطيت الرسالة الى احد الاشخاص الذاهبين الى العراق لزيارة اقاربه او لمهام حزبية فلم اكن على معرفة تامة به. لكني ورغم انشغالي الشديد في تلك الاوقات لم يفتني قراءة الرسالة بدافع الاطمئنان على صديق قديم

… الى خالي أبي وطن المحترم

بعد التحية …

قد لا تتذكرني يا خالي العزيز فقد رأيتني اخر مرة في الكويت حين زرتنا بملابسك العسكرية في اواخر عام 1990 ، مرت ثلاث عشْرة سنة كأملة قضيتها في مخيم رفحاء ، منتظرا الفرصة المناسبة للعودة الى اهلي . اذكر انك قلت لي وقتها: ( ثلثين الولد على خاله !) وهذا يعني اني اشبهك كثيراً . وهذا ما ارجوه كثيراً ، فلم يعد لي في هذا العالم بعد وفاة والدتي سواك. انا في عنفوان شبابي الآن ، ابلغ من العمر ثلاث وثلاثين سنة و اود ان اكون لك سندا في هذه الحياة . فلقد سمعت انك تعيش وحيدا في بيت جدي القديم الواقع في الاعظمية على ضفاف نهر دجلة .فأتمنى ان تتقبل ان اكون ضيفا عليك لبعض الوقت. حتى اتمكن من الحصول على اوراقٍ ثبوتيةٍ عراقيةٍ ، فليس لدي شيءٌ يثبت اني انتمي لوطنٍ ما . فانا مثل نبتةٍ ليس لديها جذور ! لقد رفضت السفر الى كل دول العالم ، رغم قدرتي على التكلم باللغة الانكليزية ، رفضتُ ان اعيش بقية حياتي ككائن غريبٍ منعزلٍ ، لا ينتمي لوطن او شعب. فهل ترحب بي في بيتك؟

عنواني في اسفل الرسالة ارجو مراسلتي.

ابن اختك سعد                                                                        

بعد وصولي الى لندن بأكثر من شهرين ، اتصل بي مكتب الأمم المتحدة IOM  مجددا ليخبرني بأنَّ هناك رسالة لي من صديقي في رفحاء . لم يكن هناك عنوان يود سعد ان يرسلها اليه فتحت مظرف الرسالة على عجل اذكر اني كنت جالسا في الطابق الاعلى من الحافلة و كان الجو في لندن ممطرا في بداية خريف 2003 . قررت ان أقرأها قبل ان اصل لوجهتي . لكن المفاجأة ان الرسالة مكتوبة على مظروفها الداخلي:

((… رسالة الى صديقي البحر))

قرأتُ المقدمة المكتوبة بقلم مغاير لباقي الرسالة ….

((قد اتعبتك معي يا صديقي مسعود طيلة السنوات الماضية في ايصال الرسائل الى اقاربي في الكويت و بغداد. وانا اذا اشكرك بصدق على صبرك معي  فأرجو ان تكون معي صبورا في قراءة اخر رسالة ستصلك مني وأرجو ان تقرأها بصوت جهوري أمام البحر او المحيط ، ايهما اقرب اليك ! فلقد احببت البحر كثيرا في طفولتي في الكويت وكنت اشكو له همومي و اسرُ له  بأحلامي . واشد ما كان علي الماً في وجودي  في مخيم  رفحاء ، هو عدم وجود بحرٍ اشاهده ، الا في مخيلتي. لذا قررت كتابة  هذه الرسالة التي قد تكون الاخيرة لي في حياتي.  فلقد قررت ان اعود الى العراق ، بعد ان اكملت كل اوراقي في الأمم المتحدة لتسليمي الى السلطات العراقية الجديدة في اقرب فرصة. فكتبت وصيتي و اعترافي الى صديقي القديم: البحر!))

صديقي البحر الكبير …

ها انا مكشوف الصدر أمامك  كما اردتني دوما ، وكنت أمانع في فضح نفسي السرية أمام عرشك العالي ! كنت اسير حافي القدمين على شاطئ جرحك الكبير وكنت ُ تريدني ان اخوض غمار موجك دون خوف ولا ان ابقى محدقا فيك ، متحيرا و اقفا على حافة الالم . فلا سبيل أمام القلب الشجاع سوى الولوج في أُتون نارك ، فهو الحب الحقيقي وليس حب أمرأةٍ او حب انسان لا يفكر بك ، حينما لا يربطه بك رابط من مصلحة او قرابة.

انت ايها البحر تعرف اني الان عاري القلب  أمامك تماما ، مستعدا ان اهبك روحي لتملكها ، فأما ان ترتفع بي أمواجك الى عنان السماء ، و أما ان  تهبط بي الى اعماقك السحيقة. ولن اكون مرتبطا بذاكرة انسان ، ولا اكون وقتها متحسرا على فوات فرصة او ضياع أمل!

فلتسمع كلماتي الاخيرة قبل ان تتقبل روحي: لم اكن نادما على موت نورا لو اني قلت لها كلمات الحب قبل استشهادها ! لم اكن اخاف من موتي او موتها بل كنت خائفا من عجزي عن حمايتها من الاعتداء. و حمايتها من خوفي ان افقدها ، ان انا صارحت الجميع بحبها . وما بين العجز و الخوف من الفقدان ، فقدتها اخيرا . لكني الان ، اصبحت اخيراً بلا عجزٍ او خوف. مستعدا لفعل كل شيءٍ ، فلا يهمني احدٌ مهما سيحصل. خذني اليك ايها الكبير اللامتناهي!)).

حين انتهيت من قراءة الرسالة الاخيرة نزلت من الباص وتركتها في مقعدي الفارغ. فلقد اسفت لنهاية شابٍّ يائسٍ آخرَ من شباب شعبي. سوف يضيع في أُتون الفوضى التي تجتاح الوطن. كم من الشباب ينبغي ان نضحي بهم قبل ان نجتاز مراحل الترويع و الصدمة كلها ، لنصل بالفوضى الخلاقة الى نهايتها ؟!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *