الابحار الثاني – شاطئ الاحلام

مدونة سعيد البصري / 12 ، اذار، 2005

بعدما ودَّعَنا سعدٌ بيومين ، رحل مسعود. لم يطل بنا المكوث فقد بدأ القصف المدفعي من الجانب الاخر لشط العرب . لم يكن باستطاعة قوات النظام العبور فقد تم تدمير الجسر بواسطة قصف طائرات قوات التحالف. استمرتْ فصائل المعارضة بالتمسك بالأرض مهما نالها من القصف المدفعي . كانت القذائف تصل لقريتنا التي لا تبعد عن النهر كثيرا ، فنحتمي بالشقوق الرملية التي تم حفرها من قبل الجيش اولا. ثم تم تجديد الحفر حين استولى عليها المعارضون للنظام ، الذين لم يكن عددهم كبيرا . ولم يكن لديهم ادنى أمل بعبور النهر و دحر القوات الحكومية أو القدرة على الرد المدفعي . كان موقفهم سلبياً بالاحتماء داخل بيوت القرية. فقد كانوا يدركون ان النظام لا يبالي بقتل المدنيين. لم نكن نجرؤ ان نطلب من المجاهدين ان يرحلوا عن القرية. ولم نكن نملك ملجأً آخرَ نهرب اليه سوى عبور الحدود الى ايران ، مما قد يعني خسارة بيوتنا وارضنا . كنا نتمسك بخيط أمل وحيد و غير منطقي وهو ان يتوقف كلُّ شيء و تعود الحياة الى سابق عهدنا. هكذا نصحو صباحا لنجد الجميع و قد اختفت من قلوبهم دوافع الانتقام و حب الدفاع عن السلطة و اصبحوا اصدقاء ، او لنقل اصبحوا لا يريدون ان يحملوا السلاح ضد بعضهم البعض . كان المنطق هو لا منطق تلك الأيام العصيبة ، التي انتهت ، او لنقل ابتدأت مآسيها ، حين حلَّقتْ فوق قريتنا  طائرات النظام ، الممنوعة من الطيران حسب اتفاق وقف اطلاق النار الموقَّع مع قوات التحالف. التي غضت النظر عن هذا الخرق الفاضح لأسباب لم نعرفها الا بعد اثنتي عشْرةَ سنة بالضبط ! القت الطائرات قنابل النّابالم الحارق على قريتنا . كان وقت شروق شمس يوم من أيام اذار الجميلة ، لكن شمس ذلك اليوم لم تكن مثل باقي الشموس فقد امتزجت حرارة الشمس بالنار و بحرارة تفوق 400 درجة مئوية . مخلفة حروق وتقشر لجلودنا . فهرب الاطفال و النساء والرجال ، همنا على وجوهنا ، لم نعرف من اين والى اين نذهب او ماذا نريد ! هربت من دارنا التي تفحمت بالكامل بعد ان شبت بي حرارة النار ، بقيتُ اركض حتى القيت بنفسي في النهر ، أُغمِيَ علي لساعات طويلة …، …. حين أفقتُ ، رأيت نفسي في مستشفى ، لم اعرف فيه احداً ممن حولي الا بعض الاشخاص من قريتنا ، سمعتهم يصرخون من الالم. كان كل شيء في جسدي يؤلمني كلما اخذوا بتنظيف جسدي من رغوة النّابالم  الحارق . استمر الالم في جسدي لعدة أيام ، كلما حاولت وضع جسدي على السرير ، كانت الحروق تلسعني بشدة . لم اتمكن من الشرب او المضغ او البلع فقد  تقلصت عضلات وجهي المحروق بكامله. ربَّما عينايَ وحدهما لم يصبهما ضرر. لكن لم تعد لدي رموش او حواجب لتحجب تساقط  قطرات العرق من جبيني مباشرة في حدقتي عيني. كانت الضمادات كثيفة على راحتي يداي فلا تسعفاني. سالت عن أمي وابي و اخي و شقيقاتي الصغيرات لم يجبني احد فلا أحدَ يعرفني او يعرفهم في مستشفى الاهواز التي تقع في شرق ايران ، حيث جلبني المنتفضون بعد انسحابهم من القرية . اخذت اسال عنهم كل من اراه كل يوم. اجابني رجل مسن من قريتنا كان يرقد بجواري ( يا بني كف عن الاسئلة . اهل القرية كلهم ماتوا عدا من تشاهدهم معك في المستشفى. اتركهم ، دعهم يرقدون بسلام … ذهبوا و ارتاحوا … وبقينا نحن نئن من جروحنا والمنا عليهم .. إنسَهم .. إنسَهم .. انا لا استطيع نسيان حفيدتي الصغيرة ..عمرها خمسة أعوام…!).. و اخذ يبكي ..تركته وعدت لسريري . ولم اسال  بعدها احدا اخر .

بعد ثلاثة اسابيع مريرة قضيتها ، لم اكن اعرف ان كنت سانجو من هذه المعاناة أم ان الحروق سوف تلوّثني و أموت ، كما حدث للعديد من الاطفال و الرجال الذين فقدوا حياتهم  في الغرف المجاورة . كنت اتذكر أمي وهي تبدأ بترديد الادعية و الصلوات حينما كنت اُصاب في طفولتي بالحمى . كنت اردد هذه الادعية في الليل حينما لا يكون بمقدوري النوم الا بعد اخذ عدة جرعات من المسكنات .وحين انأم فجرا اراها واقفة عند راسي او عند قدميَّ تكرر ادعيتها. احاول ان اقوم من مكاني لاحتضنها . لكنها تطلب  مني العودة للنوم و تقول لي همسا ( نَمْ يا حبيبي … انا و ابيك و اخواتك الان في الجنة .. جثثنا تفحمت داخل البيت ، الجرافات ألقتْ بنا في حفرة كبيرة مع باقي الجيران . دفنونا مجتمعين . نَمْ يا بني ، نحن مرتاحون الان. لقد شُفِيتْ حروقنا كلها ، انت من بقيت مشوها ، لا تخشَ ، لن ننساك من دعائنا ). ثم تبدا بالاضمحلال تدريجيا ، و تذوي اخيرا عند بزوغ الشمس ، كأنها شمعة نزفت كل قوامها و اضحت سائلا متجمداً .

استجاب الله لدعائي اخيرا فقد زار المستشفى وفد يمثل البرلمان الاوربي  وكان ضمن الوفد احد النواب في مجلس العموم البريطاني ولما عرف بان مجموعة من الموجودين هم ضحايا استخدام النظام لأسلحة النّابالم المحرمة دوليا . قام بدعوة مجموعة من الصحفيين من جنسيات متعددة و اخذوا بالتقاط الصور ، واجراءات المقالات ، وسؤالنا عمّا فعله النظام بنا. قلت ُلهم : ( سوف نموت اذا بقينا هنا ، ولن يعرف العالم بجريمة النظام) .

قرروا ان يقوموا بنقلنا على الفور الى بريطانيا لأجراء العلاجات اللازمة . وحين وصولنا الى مطار هيثرو ، كنا اربعة اشخاص ، طفل يبلغ العاشرة و أمرأة و زوجها في  الاربعين من عمرهما وانا . وعلى الفور تجمع الصحفيون حول الطفل المشوه و اخذوا بتصويره. كان يبدو كأنه عصفور دون ريش قد فر من فرن حراري مستعر. وصلنا الى مستشفى كبير وحديث في  لندن . اهتموا بنا كثيراً . قالوا بانا نحتاج الى عمليات جراحية كثيرة تكلف مبالغ كبيرة . اعلنوا في الصحف عن حملة لانقاد الطفل تحمل اسم ذلك الطفل. و تم تجميع الاف الجنيهات . لم يكن اي اشارة من قبل الصحف  لي او للرجل و زوجته . لكن  بعد سنة من وصولنا ، تم خضوعي لأكثر من عشر عمليات جراحية  في انحاء متفرقة من جسدي. اخذوا بقص جزءٍ من فخذي ليلصقوه في رقبتي و آخر من اليتي ليلصقوه في خدي ، وهكذا . كأني (فرانكشتاين) محروقاً يعاد ترقيعه من جديد !

بعد ثلاثة اشهر من المكوث في المستشفى بدأت بتحريك اطرافي ، نظرت لأول مرة الى وجهي في المرآة بعد ان ازالوا الضمادات . لم اتعرف على نفسي . كان هناك شخص اخر ينظر إليَّ من وراء نظارته السوداء السميكة . وودت لو اودعه ، و لكنه كان يتبعني كظلي في كل الطرقات. وددت لو كان حلما مزعجا أو احتمالاً صعب التحقق من احتمالات كتاب المحو  التي حدثني عنها بصير القرية في أيام صباي!

خرجت من المستشفى. لم يكن أحدٌ في استقبالي فلم يكن لي أحدٌ من اهلي قد بقي على قيد الحياة. الطفل مضى مع السيد عضو البرلمان ، الذي انقذنا ، وربما قد تبناه لاحقا. الرجل وزوجته طلبا اللجوء الانساني وذهبا الى اقارب لهما في دولة اوربية اخرى. أما انا  فقد تم اسكاني منفردا في شقة في احد ضواحي لندن مخصصة للاجئين الجدد . وقّعتُ على اوراق لطلب اللجوء الانساني و استلمت مبلغَ الاعانة الشهرية . طلبوا مني الالتزام بمواعيد المراجعة الطبية و الالتزام بعدم العمل خارج اطار القوانين.

عند حلول الشتاء ، كانت الاجواء في لندن باردة بشكل لم اعتده . لم  تكن لشقتي اطلالة على النهر كما في بيتنا بالقرية. لم اعتد العيش في مدينة مزدحمة و باردة مثل لندن . فقد بقيت روحي تحوم حول قريةٍ صغيرةٍ هادئة ٍ ، تنأم مبكراً على ضفاف شط العرب.

بعد ثلاث سنوات ، اخترت الانتقال للسكن في مدينة  بورتسموت، و هي  الميناء الجنوبي لبريطانيا للعيش هناك فقد اخبرني العديدون انه من الموانئ الجميلة حيث الجو اكثر دفئاً. قبل ان اغادر لندن زرت الرجل البرلماني الذي انقذنا ، لأشكره . كان قد اسس منظمة انسانية لمساعدة الاطفال المعاقين من ضحايا الحرب وضحايا تهجير الاهوار. سالته : (هل يمكنني الحصول  عمل في المنظمة؟) ، اجابني على نحو غامض و لعله ساخر : -(سيحين الوقت المناسب لعملك معنا ، انتظر اتصالنا) . اهداني سنَّارة وعدة لصيد الاسماك، ثم ودَّعَني.

بعد خمس سنوات تم منحي الجنسية البريطانية . لكني لم اكن قادرا على الحصول على عمل مناسب . كنت قد تعودت التقشف في المعيشة ،  معتمدا على مبلغ الاعانة الشهري. كنت اتوق لو استطيع ان اجد عملا يناسبني ، لكن بنيتي الضعيفة نتيجة لضمور عضلات جسمي جعلتني غير قادر على الاعمال البدنية  ، فيما كانت الاعمال الكتابية تتطلب تكلم اللغة الانكليزية بطلاقة . لم اكن على احتكاك بأحد من الجيران . كل معارفي  كانوا من العرب المغتربين فلم اطور لغتي . و لم يكن أمامي سوى ان اكون ملتزما بحضور الدروس التي تقدمها منظمة اللاجئين لغير المتحدثين بالإنكليزية  . تنتهي الدروس الساعة الثانية بعد الظهر . وفي فترة ما بعد الظهيرة كنت اذهب الى ساحل البحر ، اشتري رغيفين من الخبز . التهم احدهما مع قنينة من اللبن و الرغيف الاخر اقطعه الى قطع صغيرة القيها الى نوارس البحر التي تحوم حول الساحل بحثاً عن الطعام . كنت اشاهد الصراع المحموم بين  افواه الاسماك الصغيرة التي تحاول الوصول الى قطع الخبز الطافية و بين مناقير النوارس النهمة لالتهام الرغيف و الاسماك معا ! كان صراعاً يلخص الصراع الذي يجتاح العالم النِهم لافتراس الاخر مهما كان نوعه او حجمه . 

في السنوات التالية . كان البحر صديقي الوحيد . صديقي الذي ابوح له بحزني الكبير الذي تجاوز كل ابعاد المحيطات الخمسة و كل المبحرين فيها الان وفي الازمان القادمة .كنت وحيدا بشكل مخيف ، لدرجة اني كنت احس العالم فارغاً. لا يوجد فيه بشرٌ سواي وهذا الساكن في داخلي بجسده و وجهه المشوه . كنت اجلس أمام البحر صأمتاً فاقداً القدرة على الابتسامة او البكاء او الضحك ، اذ لا توجد في وجهي لا عضلات و لا اعصاب ، لا شيء تماما . لم يكن لي اصدقاء ، فقد تعودت على كتمان مشاعري ولم يكن الآخرون قادرين على التواصل مع وجهٍ لا يبدي اي تعابير او مشاعر. اصبح البحر صديقي الكتوم  الذي ابوح له بأسراري . اجلس أمام قلبه الكبير في مكان قصي من الساحل حتى غروب الشمس ، حينها يرسل لي صديقي ريحه الباردة لأفز من حلم يقظة طويل ، فاشعر بقشعريرة الأموات و اودع وجوههم ، لتعود روحي بعدها من سفرها اليومي ، من عوالمي البعيدة.   

حين اعود مساءً للفندق الصغير المكون من طابقين ،أُلقي التحية على السيدة الهندية الاصل ارملة مالك الفندق ، ثم اصعد الى شقتي الصغيرة المكونة من مطبخ و حمام صغيرين وغرفة للنوم تحوي سريراً و خزانة صغيرة للملابس و طاولة بيضاء اللون . كنت  اضع عليها مجموعةً من الأقلام الملونة و دفتراً للمذكرات (اجندة ) ، استبدلها عند نهاية كل سنة. افتح الاجندة  كل ليلة ؛ قبل النوم ؛ لأدون حلم يقظة ذلك اليوم. ثم أغطُّ في نوم عميق دون أحلام ، فقد استنزفت أحلام اليقظة كل طاقتي .

تصفحت بعض الاجندات بعد سنين طويلة ، كانت تضم مئات الأحلام انتخبت حلمين , احسب انهما كانا نبوءتين شاهدتما في أحلام يقظتي  قبل ان تتحققا …

# حلم يقظة (جسد يغلي قرب النهر) 12 اذار 2001

في تلك الليلة عدت الى شقتي بعد ان عشتُ حلما يختلف عن أحلام اليقظة السابقة. فتحت الصفحة كان يوم 12 اذار من عام 2001 و بدأت الكتابة :

ارجوكم انقذوني من الاحتراق .. النار تشب في جسمي … انا لا أراكم ، فقد أغمضتهما خشيت ان تمتد اليهما السن اللهب. .. لقد احرقونا  دون سبب .. نحن اناس قرويون  بسطاء لم نعرف يوما للحروب سببا مهما تكلموا عنها في نشرات الاخبار. كان ابي يقول دوما : ( اللهم اشغل الظالمين بالظالمين و اجعل كيدهم بينهم ). ابي و اخي الكبير قضَيا عمريهما في فلاحة هذه الارض و حصد محاصيل الخضروات وبيعها في السوق .. ها هما اراهما يودعان أمي ويذهبان الى الحقل القريب من النهر الصغير المتفرع من شط العرب الكبير. كنت صغيرا ، تركوني مع أمي التي كانت مع أُختيَّ الصغيرتين ، يجمعن البيض. فقد كانت لدينا عشر دجاجات وديك مهارش يغلب كل ديكة الجيران . حزنت انا و اخواتي الصغيرات حين راينا في الصباح ابن عرس وقد عض احدى الدجاجات من رقبتها وماتت . بقيت تسع فقط . كنا نعتقد ان الديك يحمي الدجاجات لكنه لم يفعل شيئا سوى التفرج. لان أبن عرس كان اسرع و اقوى كما اخبرنا ابي حين عاد من الحقل. علينا ان نحبس الدجاجات داخل قفصهن ريثما نجد حلا يمنع ابن عرس. قال لي ابي : ( هذا العالم لا يرحم يا بني ، فأما ان تكون الاقوى او تتقن فن الاختباء ريثما يمر الخطر ). اختباؤنا في بيوتنا ريثما يمر خطر القصف. لكنه لم يمر ، استمر حتى صباح فجر ذلك اليوم ، حين سمعنا ازيز الطائرات .. كنا نظنها طائرات التحالف جاءت ترد على قصف مدفعية النظام. لكنها كانت طائرات محملة بالنّابالم. كان عمري سبع عشْرة عاماً ، و كنت اعرف كل انواع الأسلحة. فقد كنت مع فتيان القرية نسمع لقصص بصير القرية الذي فقد بصره اثناء الحرب العراقية- الايرانية . كنا نلتف حوله و نخزن في ذاكرتنا كل ما يذكره عن انواع الاسلحة و احداث المعارك و فظاعات الحروب . كان ذا خيال كبير ، اخذ يرسم في مخيلتنا صوراً مخيفةً ، لكنها مشوقة ، كأنها مشاهد من أفلام الرعب التي كنا نحب مشاهدتها حين يسمح لنا اهلنا ان نعبر شط العرب الى العشار. فنذهب الى (سينما الوطن) ؛ أيام العيد ؛ لنعود وقد شاهدنا فلمين في بطاقة واحدة ، فلم حربي وفلم رعب ، ولا اعرف ما الفرق بينهما سوى في سرعة و بساطة القتل ! هذه الصور المبعثرة عن أيام طفولتي وصباي و صور هجوم الطائرات كنت اشاهدها في اغلب أحلام يقظتي.

لكن ما كان غير متوقعٍ في حلمي هذا اليوم؛ الذي يصادف الذكرى العاشرة لحرق وجهي وجسدي بالنّابالم ؛ اني حينما استمريتُ في الركض نحو النهر لم القِ بجسمي المحترق في النهر ؛ (( فيبتل وجهي برذاذ البحر في بورتسموث ، كما يحدث في كل يوم ، لاستيقظ عندها من الابحار الحلمي في شاشة افق المحيط ، التي كانت ترتسم على صفحتها الصور المتلاحقة )) ؛ بل واصلت و واصلت الركض حتى تعثرت قدمي بواحدة من تلك الالغام القديمة المدفونة تحت التراب والتي طالما حذرَنا منها بصير القرية ..كانه يحكي لنا عن جنية تخطف الاطفال اذا ما خرجوا ليلا الى الحقل بدون صحبة احد من اهلهم .. ( فسوف يطبق على ارجلكم اللغم و تقطع ارجلكم) .. ( اه يمه.. يمه ..) اصرخ مع بقية  الصبيان الصغار خائفين ونقول له : ( وبعدين شنو يصير عمي ؟ ) فيرد علينا ضاحكا : (بعدين ركضوا لأهلكم و لا تخرجوا خارج الطريق لان اللغم ما يتشاقى عمي! ) … ركضت .. ركضت .. اهلي بقوا في بيتنا المحترق .. لم ينجُ منهم احدٌ .. انا وحدي فتحت باب البيت …وبقيت اركض ..اركض .. وقبل وصولي الى النهر بأمتار قليلة ، اطبق اللغم على قدمي كانه فك مفترس لسمك القرش .. رأيت كف قدمي وقد انفصلت عن جسمي متلطخة بالدم .. لم اهتم كثيرا بالألم .. رأيت قدمي وقد بُترتْ .. فتحت عيني هذه المرة و نظرت الى الماء ، كان الوصول اليه خلاصي من الحرق .. البقاء هنا يعني الموت .. بكيت فلم اعد قادرا على المشي .. حاولت الزحف لم اقدر … فكأن اللغم قد قيد جسدي بالأرض .. نظرت الى السماء .. كانت مليئة بالغيوم السوداء و بالطائرات .. فبكيت … وانتبهت من الحلم على صوت هياج البحر فقد حل المساء في بورتسموث.

# حلم يقظة (رحلة في بلاد النازفين!) 11 ايلول 2001

كان الجلوس أمام البحر يشبع نهما روحيا للماضي . و هو في الوقت نفسه يجعلني اسكن الجوع الجسدي الذي يؤرقني كل ما تذكرت ان ( 300$)  الثلاثَ مئةِ دولارٍ التي استلمها كمعونة لن تكفي حتى نهاية الشهر للطعام و الشراب و اجور المواصلات و فواتير الوقود والكهرباء و الماء. لذا قررت ان احذف وجبة الغداء واستعيض عنها برغيفين من الخبز احدهما لي و الاخر للنوارس و اسماك البحر . وكان الغفو مستيقظا أمام سلطان البحر ينسيني الجوع حتى المساء. كانت الساعة الثانية ظهراً وكان الجو غائما في ميناء بورتسموت ، درجة الحرارة حسب ما قرأته في الساعة الجدارية لمعهد تعليم اللغة تسع عشْرة 19 درجة مئوية و الرطوبة النسبية 75% خمس وسبعون بالمئة. لم اكن مرتاحا ، فقد كنت اشعر بالجوع و الكآبة ، كنت قد الفتُ هذه المشاعر ، لكني اليوم كنت اشعر برغبة في البكاء دون سببٍ . وربما كنت ابكي فعلا ولكني لم احس بالدموع على وجهي. فكنت افتح فمي لأتذوق ملوحة الدموع لأعرف انها تمطر في داخلي حزنا. من قال إنّ البكاء مرٌّ ؟ في حالتي على الاقل كان بلسما مطهرا.

كان الشاطئ فارغا تماما ؛على غير العادة ؛ وهو ما يشعرني بالراحة فرؤية الاطفال يلعبون تجعلني اتذكر شقيقتيّ و اطفال قريتنا . فأحاول ملاطفتهم فيهربون مني بمجرد رؤية وجهي المحروق . والبعض منهم كان يطلق كلمات تستفزني ، فابتعد ما استطعت عن تجمعات العوائل.

حين ابحرت روحي في افاق البحر الواسعة ، كنت قد بدأت مشاهدة المجرى النهري الممتد من ملتقى دجلة و الفرات في القرنة حيث شجرة آدم و مرورا بقريتنا و قرى ابي الخصيب  وجزيرة  أم الرصاص و حتى وصول شط العرب الى مصبه في الخليج العربي عند الفاو.

رأيت روحي في طفولتي ازور جزيرة أم الرصاص بصحبة والدي في زورق بخاري. حين وصلنا كانت في استقبالنا عائلة من اقاربنا. بعد أنْ صلينا الظهر و تناولنا طعام الغداء. اخذنا نجوب الجزيرة التي كانت تحيطها اشجار القصب والبردي ، حيث تتكاثر الخنازير البرية. في وسط الجزيرة كانت اشجار النخيل العالية و تحتها اشجار السدر و الزيتون والتين و العنب و البمبر و المانجو و انواع أُخرى من الفواكه لم اعرفها. رأيت نهيرا صغيراً اخذ البنين و البنات بالقفز الى الضفة الاخرى .عند حافة النهر الاخرى احتشدت  العشرات من السلطعون ، كنا نسميه ( ابو الجنيب ), بقيت متسمرا خائفا من القفز ، اخذ الصبيان و البنات بالسخرية. قالت صبية ضخمة ، قد سبقتني بالقفز الى الضفة الاخرى : ( شلون راح تعيش وانت تخاف من هذا الحيوان الصغير ) أمسكت بيدي وجرتني بقوة .. سقطت على وجهي بالطين… اخذوا بالضحك .. رفعت راسي .. كان وجهي ملطخا بالطين … اختفت المياه من مجاري النهير الصغير .. اختفت من شط العرب الكبير … اخذت بالركض كان المئات قد خرجوا من تحت طين النهر الغريني، لا يبدو من اجسادهم سوى عيون تلتمع ، واجسادٍ مكسوةٍ من راسها حتى القدمين بالطين اللزج … الجميع يصرخون نريد الماء .. اين الماء .. العطش قتلنا …. كان الطين متيبساً على اجسادنا … قطعنا  النهر صاعدين من أم الرصاص نحو قريتنا … انضم الينا الاف الناس …كلهم مكسوون بالطين وينادون.. الماء .. العطش .. انقذونا .. اخذ البعض يتساقطون… الأقدام المسرعة تطأُ اجسأمهم ، فينغمسوا في قاع مجرى الطين .. لم يساعدهم على النهوض احد ..الكل يريد الوصول الى الماء .. وصلنا الى شجرة أبينا ادم  … رأيت مناحة عظيمة عندها.. البعض تعلق بأغصان  الشجرة والبعض بساقها…  الكل ينوحون…. سالتهم : ( اين دجلة؟ و اين الفرات ؟ لماذا لا يلتقيان  هنا و نشرب مياههما العذبة ؟!) . اجابتني الصبية الضخمة  التي دفعتني في الطين : ( سقط النهران و سيسقط جبلان عظيمان وستسقط انت بعد سقطتك في الطين ، سقطتين !) .. سمعت أمي تقول دون أنْ اراها : (ولن ينجيك سوى الله رب العالمين) …. ، …

كنت خائفا من ابو الجنيب، و لم اقفز الى الجهة الاخرى من النهير الصغير … ناداني ابي …فتركتْ الفتاة الضخمة يدي …. ، ودَّعْنا اقاربنا وصعدنا الى المركب البخاري … رأيت شمس الغروب تسقط في المياه المتأرجحة  من بعيد .. كانت شمس محمرة جدا اكثر من باقي الأيام .. كذلك شمس الغروب في بورتسموث  كانت تبكي دما ..

حينما عدتَ الى الشقة ، كانت نشرات محطات الاخبار تنشر بيانات الاستنكار لجريمة الاعتداء على برجي التجارة في نيويورك و البنتاغون ؛ انه الحادي عشر من سبتمبر 2001. هل كانت نبوءة بان سقوط البرجين و البنتاغون سيعجل بسقوط الرافدين و شط العرب وانحسار المياه فيها ، وما سيعانيه بعدها سكان وادي الرافدين من ظمأ و عذاب طويل؟ سجلتها في اجندتي يومها ، لكي لا انسى.

لكني لم اتذكرها خلال السنوات الطويلة التي شهدت كل تلك الاحداث ، الا حين بحثت في اجندات الأحلام. فانتخبتها من بين عشرات الأحلام لأقوم بتحميلها على الشبكة الدولية  في مدونتي هذا اليوم.

* ملاحظة : و الحق يقال ؛ اني اليوم ؛ لم استطع التمييز ما الذي قصدته وقتها بـ ( رحلة في بلاد النازفين ). هل تعني الناس النازفين ، أم نزيف النهرين و نضوبهما ، أم انها كناية عن بلاد الرافدين!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *