الابحار الثاني – كوابيس كيرونا

مدونة مسعود كاكا علي  / 15 ، نوفمبر ، 2002 / السويد

كانت عيادته تقع  في بناية تبعد حوالي عشرين دقيقة مشيا من شقتي في احدى شوارع مدينة كيرونا في اقصى شمال السويد ، حيث لم تشرق الشمس منذ شهر آب الماضي. و ستستمر بالغياب الى ان تطلع في شهر أيار المقبل من جديد لتستمر بعدها بالسطوع لمدة خمسين يوما دون غياب بما يعرف بظاهرة شمس منتصف الليل  . تعودت بصعوبة على هذا الاختلال في ساعتي البيولوجية  الذي اصابني  خلال السنوات الاربع  التي قضيتها في هذه المدينة.  حيث  قدمت اليها  في 1998 لا كمال دراسة الماجستير في الاقتصاد الدولي بعد ان انهيت دراستي الاولية في مدينة مالمو، التي تعج بالمهاجرين العراقيين ، الأمر الذي افتقده هنا . برغم اني لم اكن اود ان التقي بالعراقيين الذين يعرفونني حين كنت في جامعة اربيل. والتي تركتها وهاجرت الى السويد بواسطة سلسلة من المهربين كما هو حال الاف الشباب الذين تركوا اوطانهم وطلبوا اللجوء الانساني في دول الاتحاد الاوربي المختلفة طلبا للحصول على  الأمن و الاستقرار . كانت اربع سنوات صعبة علي نفسيا برغم توفر كل وسائل الراحة التي وفرتها لي الجامعة خلال فترة الدراسة. بعد تخرجي ، انتقلت للسكن  في شقة  بعد حولي على وظيفة مستشار اقتصادي في احدى الشركات العالمية التي تعمل في مجال الصناعات المعدنية و الطاقة.

وصلت للعيادة في الساعة السادسة مساءً –اقصد الثامنة عشرة فلا معنى لكلمة مساءً هنا ، فاليوم كله مساء – حيث كان موعدي الاسبوعي مع دكتور جودي (Dr. Goody) ، فقد الزمتني الشركة التي توظفت بها بمراجعته في نهاية كل اسبوع كشرط لقبولي بها . وذلك اثر توصية من المستشارة النفسية التي قامت بمقابلتي لغرض توظيفي في الشركة. وذلك بعدما لاحظت ان الملف المرسل لها من قبل الحكومة السويدية والخاص بقبول لجوئي الانساني قد احتوى على كمية كبيرة من الاحداث العنيفة التي عشتها ، والتي قد تحدث أثراً نفسيا سيئا علي في حالة اهمالي لها (على حد وصف التقرير )، الذي قدمته المستشارة النفسية بعد اخضاعي لبضع جلسات للكشف عن حالتي المرضية. الأمر الذي اثار سخريتي ، لكني كنت مجبرا في نهاية الأمر على الانصياع لهذا الطلب خشية ان افقد وظيفتي في الشركة.

كانت غرفة الطبيب النفسي واسعة و تحتوي على سرير جلدي ابيض اللون و مكتب كبير الحجم و نباتات موزعة هنا و هناك ومدفأةٍ كبيرة . كانت لا تشبه عيادات الاطباء  المكتظة بالأدوات ، بل انها توحي كأنها مكتب شخصي  يخلق طاقة  ايجابية لزائريه فحسب. رحب بي الطبيب بحرارة  و سألني عن انطباعي الشخصي عن الجلسات الماضية التي خضعت لها من قبل المستشارة النفسية للشركة ، و هل اشعر بتحسن . فأجبته بان الجلسات كانت مريحة فلا شيءَ جدي غير بضعة كوابيس ليلية تزورني في فترات متباعدة. ابتسم بلطف، وقال ان عليّ من هذه الجلسة ان اطلعه على تفاصيل الكوابيس التي تزورني منذ فترة طويلة ، والتي اصبحت ضيفاً دائم الحضور خلال السنوات التي قضيتها في هذه المدينة.

يجب ان تكتب يا سيد مسعود كل ما تراه من أحلام و تطلعني عليه ، لكي استطيع مساعدتك في التخلص من هذا الضغط النفسي الذي سوف يزداد اذا استمريت في محاولة اخفائه او التقليل من شانه.

سوف احاول ان اكتب كل ما أراه رغم انه شيء متكرر، ربما لا يعني شيئاً مهماً.

ضع الورقة و القلم او جهاز التسجيل قرب سريرك و سجل كل شيءٍ فور استيقاظك من الحلم.

 

بدأت بكتابة كوابيس كيرونا التي هاجمتني بضراوة و وحشية :-

# كابوس الليلة الاولى ( كابوس ليلة الانسحاب )

رأيت روحي تحلق مع طائرات التورنادو البريطانية و 52 B و F16 الأمريكية وهي تلقي الاف الاطنان من القنابل فوق سرب النمل المنسحب من الكويت الى العبدلي مرورا بسفوان ثم بجبل سنام وصولا الى جسر الزبير. كنت ارى خطاً اسودَ طويلاً يتبعثر هنا وهناك . تقوم الطائرات برشه بحمم صغيرة من اللهب فيتبعثر الخط الاسود وينقطع في أماكن عديدة. وبعد ان تتركه الطائرات لبضعة ساعات يعود فينتظم في مسيره الحثيث. ثم تعاد الكرة مرة بعد اخرى. وفي كل مرة تزداد الضحايا و يكثر التبعثر والتشظي. نزلت من فوق الغيوم ..اصبحت الرؤيا اوضح .. رأيت الدبابات المحروقة بداخلها الجنود و قد تفحمت ، و العجلات العسكرية المعطوبة تعيق تقدم الرتل ، فتقوم التي تليها بالدخول في طرق جانبية متعرجة. غير ان اطاراتها تنغرس فجأةً في الرمال ، فيتركها الجنود و يركضون مسرعين حين يسمعون صوت الطائرات قادمة اليهم ليلقوا بأنفسهم في الحفر. وحين لا يجدون حفرةً ما ، يمسكون بالرمال والحصى يلقونها على رؤوسهم و اجسادهم علها تخفيهم عن المدافع الرشاشة ، الذي بدأت بنهش أجسادهم. نزلت روحي الى الارض المحروقة ، فرأتْ بعض الجنود يركضون حفاةً بدون احذيتهم العسكرية. و اخرين بفردة  واحدة من ( البسطال ) أما قدمهم الاخرى فكانت تطأُ الرمال الرطبة بفعل تساقط الأمطار . هناك أقدام مبتورة لكنها لازالت منتعلة للبسطال اللعين الذي لم يتم خلعه منذ اكثر من اسبوعين. كان اغلبهم عزلا من اسلحتهم فقد تركوها لأنها تعيق حركتهم . و البعض الآخر وضعها فوق رأسه كعلامة للاستسلام أمام الطائرات ، التي كانت تشاهدهم كسرب نملٍ يجب ابادته قبل ان يعود الى جحره و يختبئ !

وصل اول الرتل المنكسر القلب والمدمر الجسد الى مدينة البصرة فاستقبله أُناسٌ غاضبون مدنيون وعسكريون يرمونهم بالرصاص ، فقسمٌ  يصرخ بهم انتم جنود الطاغية و قسمٌ اخر يقول لهم انتم من اولئك الغوغاء المنتفضين  ضد الحكومة الشرعية . كان اغلبهم جنوداً جنوبيين فقراء او من ابناء الشمال الذين لا يعرفون كيف يعودون لمدنهم البعيدة.

رأيت الارض من رمال ملتهبة تحتهم، و السماء من شواظ من نار و نحاس فوقهم. روحي نزلت تندب هؤلاء المُحاربين من قبل كل اجناس الارض . فلا مسعف لجرحاهم و لا نادب لقتلاهم و لا عاذر لمن تاب منهم و لا راحم لمن استسلم منهم !  و كذلك روحي انكرت ان تكون منهم ! لكنها  كانت تبكي عليهم و تطير من جريح الى قتيل محتضنة من صعدت روحه الى حنجرته و دخل في النزع الاخير . كانت تهمس فيهم من انتم ؟ ماذا فعلتم ليتم عقابكم بكل هذه القسوة من الجميع ؟ كانوا يبكون صامتين ولا يجيبون عليّ. اجسادهم المنهكة تغوص في الرمال شيئا فشئياً حتى تختفي خوذهم العسكرية المثقوبة و لا يتبقى من آثارهم سوى اسلحة صدئة من دبابات و بنادق كلاشنكوف و بساطيل تحوي جزءاً من سيقان مبتورة و متفحمة و كان اخر صوت يصدر من كل جندي يغور في الارض غمغمة حزينة : لماذا كنا ضحايا من اجل لا شيء .. لا شيء .. لا شيء .. فيتردد صداها في الصحراء الواسعة !

كابوس الليلة الثانية (كابوس أميرة الوردة) #

انطلقت روحي قبل بزوغ الشمس بقليل ، كانت تطير دون ان تسمع اصوات الطائرات الحربية المزعجة . لم اعرف ان كانت الطلعات الجوية  قد تم ايقافها أم ان الأمر سيعود بعد استراحة قصيرة . سرب النمل قد ابيد اغلبه و الجزء القليل الذي نجا تم اعتقاله بتهمة الشغب و الغوغاء او اعادة هيكلته مع الفرق العسكرية القادمة من العاصمة والتي لم تشترك في القتال . ارى  دبابات  كثيرة   تطلق نيرانها  لتحصد المنتفضين ضد النظام . ارى كلابا تنهش جثثاً ملقاة في الطرقات و اطفالاً يركضون هائمين على وجوههم . فزعت روحي وهربت الى صحراء رملية  بيضاء لا يوجد فيها بشر الا سيدة  هيئتها مهيبة بملابس بيضاء تفترش الرمال ، على محياها ابتسامه عذبة لكنها كانت تبكي و تقول لي : تعال يا ولدي انظر الى دمك على ملابسي ، هذا دم ولادتك … انظر كيف استقبلك يا وحيدي بالدماء . لا تفزع فهي لن تكون الاخيرة فانت سترى المزيد و المزيد … اعطتني وردة حمراء و ابتسمت ثانية و غفت . اخذت روحي تبكي بشدة  محاولة ايقاظها . كنت خائفاً من حبال تقترب من قدمي تريد ان تقيدني ، حبال تتحرك بذاتها من دون يد تحركها … اقتربت منها…كانت عيناها مغمضتين وشفتاها صأمتتين ، سمعتُ صوتاً من منحرها : لا تخف فانت في حلم ! لن يحدث لك شيءٌ طالما ايقنت انك في حلم . لا تسمح لهم ان يخدعوك ، لا تسمح لهم ابدا. ابق محتفظا بروحك البريئة. اذهب يا ولدي الى الغابة في الشمال سترى أميرة يحرسها وحوشٌ اعطها الوردة الحمراء و ستعطيك قلبها . لا تضع قلبها الجميل ، احمه من الوحوش. الوحوش لن يستطيعوا قتلها الا اذا ضاع منك قلبها . ارحل الان واتركني انأم فانا متعبة جدا من هذا العالم ، اذهب واتركني فانت قد وُلِدتَ الان !  

ثم رأيت روحي تطير لترى قمماً لأشجارٍ طويلة داكنة الخضرة  . تبدو من الاعلى ، انها تنظم بنسق يشكل متاهة كبيرة تؤدي الى كوخ صغير في اعلى قمة جبل يكتسي اعلاه بالثلج لكن سفحه يزدحم بأشجار لفواكه براقة  الالوان .  علمت روحي انها  كانت بانتظار وصولي ، فرايتها  وقد خرجت من  باب الكوخ بعينيها  الخضراوتين  ،تضع على راسها منديلا بلون البحر ، و قد غطى شعرها الكستنائي المتماوج كتفيها النحيلين . قالت لي : انتظرتك طويلا يا مسعود ابن ميادة. 

– وكيف عرفتِ اسمي ؟

– أمك رسمته لي من عالمها البرزخي بحروف تشكلت من جسد غيمة بيضاء ، تلاشت في الفضاء قبل ان يفك سر طلسمها الاشرار ثم اوصتني ان اهديك قلبي.

– هل هذا حلم ؟ 

– انت تعلم ان الأحلام تصنعها ارواحنا ، والارواح تعيش حبيسة أحلامها.

– اتمنى ألّا استيقظ ابدا .. اتمنى ان ابقى معكِ في هذا الحلم.

– اذن كن شجاعا لتعيشَ حلمك حتى اخره.

كانت الشمس قد بدأت بالغروب و قبل ان يحل الظلام ، بدأت الاشجار تصطبغ بحمرة قانية تميل للسواد شيئا فشيئا . اسمع صوتاً في احراش الغابة كأنما جيش يتحرك بسرعة كبيرة نحونا. هبت ريح تحمل رماداً اسود ، هامات الاشجار العملاقة تبدا بالاحتراق ، رائحة الاحتراق تجعل روحي تود لو تطير مبتعدة ، لكن الفتاة تمسك بيدي بقوة و تصرخ بي : انجو بي ، اهرب بي !  أقدامي اصابها الشلل لا تتحرك من مكانها ، رائحة  قوية تخنقني ، اصوات اضطراب احراش الغابة تزداد اصطخاباً . الفتاة تصرخ : انهم يقتربون مني ، اجعلني اختفي من حلمك قبل ان يمسكوا بي . افلت يدها لعلها تختفي ، انها لا تختفي ، بل تبدا بالبكاء و الصراخ : لِمَ تتركني ، انقذني .. لا تترك يدي . أميل نحوها بسرعة اريد أمساك يديها لكن الارض تتشقق من تحت أقدامنا ، تظهر هوة سحيقة تفصلنا عن بعض . تصرخ بي سوف يصلون الي ، وحدي بقيت .. وحدي ..انهم قربي … لكني وحدي .. وحدي ..

استيقظت فزعا من النوم . سجلت الحلم بكل تفاصيله و هرعت في اليوم التالي الى عيادة  ( Dr. Goody). لم يكن موعد مراجعتي الاسبوعية . كنت اريد ان اترك له ما دونته ، لكني تفاجأت ان السكرتيرة الخاصة به غير موجودة ، باب غرفته الخاصة نصف مفتوح . سمعت صوته من الداخل ( – ادخل يا مسعود انا بانتظارك ). جلست على الكرسي ، لكنه طلب مني ان اسلم له ما دونته و انأم على الاريكة . قرا في الاوراق لبرهة ، ثم اغلق الانوار و طلب مني ان اروي له ما رايته . كان يستمع لي وهو يحدق في نار المدفئة التي كانت تعطي الغرفة ضوءً متراقصا ، اوحى لي كأنها نيران تستعر في اشجار غابة.

بعد ان انتهيت من سرد الكابوسين ، عادت الاضاءة ، طلب مني الجلوس قليلا ، ثم قال : ( أن تكرار ذات  الكوابيس المرعبة لسنوات طويلة يعني انك تعاني من متلازمة الاحساس بان كارثة على وشك الحدوث ، كما لو انك تعيش دائما على حافة الهاوية وذلك الاحساس نتيجة لما عانيته وقاسيته في حياتك). طلب مني ان اخبره بصراحة اذا كنت قد تعرضت لتهديد بالقتل قبل وصولي للسويد . اخبرته ان ذلك مذكور في ملف لجوئي الانساني ، وقد سلمت له الشركة نسخة من الملف. ربت على كتفي بلطف قائلا: ( دعك من الاوراق والملفات و اخبرني كصديق ما الذي عانيته هناك في العراق و افزعك ؟ تكلم ما بداخلك و انسَ اني طبيب و انسَ شركتك و الحكومة السويدية ).

طلب مني ان اتمدد على الاريكة من جديد و أحدق بنقطة زرقاء في السقف ، هي مركز لدوائر متداخلة داخل قبة مقعرة صغيرة وابدا بالحديث … (( اه .. اه .. قتلوها يا ويلهم من عقاب السماء … كانت طالبة هادئة لا تختلط بالأخرين كثيرا ، تجلس في مكتبة الكلية بعد نهاية المحاضرات و تقرا في كتاب قديم ، احسب انها تجلبه معها وليس من كتب مكتبة الكلية. اثارت فضولي بهدوئها و انعزالها و نظرة عيونها الخضراء الملائكية و وجهها النحيل الذي يشع لونا ورديا وخاصة حين ترتدي كنزة وردية . كانت تمشي كزنبقة ، رقيقة و شفافة دون ان تتصنع شيئا في حركاتها . توحي لمن ينظر اليها انها لوحة في حلم من أحلام الفجر الرائقة . بدأت اتحاور معها بعد انتهاء المحاضرة فقد كنا في ذات الصف الدراسي ، ثم نتمشى للمكتبة. و بعد ان تنتهي من القراءة في كتابها الاثير اودعها عند باب الجامعة. فلم تكن تسمح ان نمشي معاً خارج اسوار الجامعة. رغم انها قالت لي اكثر من مرةٍ بانها تحس معي بأمان و اطمئنان لم تشعر به ، منذ ان انتقلت الى اربيل للدراسة في الجامعة ، قادمة من مسقط راسها في سنجار .

سالتها مرة عن محتوى الكتاب القديم الذي تقرا فيه في المكتبة لم تجبني وقالت:( انتظر الوقت المناسب و سأخبرك ، لا تستعجل يا صديقي .)… و ابتسمت بعذوبتها الطفولية . اخذت الأيام تمضي ، الربيع ثم الخريف ثم الصيف فالشتاء ، .. و وجدت يديها تمسك بيدي بقوة ، كنّا نقطع شوارع اربيل أيام المطر ، يداً أمسك بها المظلة ، و اخرى احتضنها كي لا يتمايل جسمها النحيل من رشقات المطر. 

– لم يتبقَ سوى سنة و تتخرجي و ترجعي الى اهلك في سنجار، هل ستتركينني و تمضين؟

– و ما الذي تخطط له انت ؟

– نتزوج مثل اي اثنين يحبان بعضهما

– اخشى انك من سيتركني اذا عرفت بسري.

– أيُّ سرٍّ تخفينه يا تَوأم الروح ؟

كانت تجلس بجانبي تماما ، يدي على كتفها و الاخرى تحمل المظلة لتحميها من المطر. اخرجت من محفظتها كتابها القديم ، قائلة ( حان الوقت لكي اخبرك بما يتضمنه هذا الكتاب ) هززت براسي موافقا .  انحنت بجسدها الرشيق الى الأمام قليلا ، و نظرت في عيني كأنها تتوسل ان اكون اهلا للثقة ، قلت لها ضاحكا: (قولي، معكِ للموت ) وضعتْ يدها على فمي ، ( لا تذكر الموت ابداً !  ) فقبَّلتُ يدها وكانت اول و اخر قبلة. أمسكتْ بالكتاب بقوة بكلتي يديها وقالت :

– هذا كتاب الجلوة للطائفة الايزيدية. وانا منهم

– وماذا بعد ؟

– الا تهتم ؟

-اهتم طبعا. هذا معتقدكِ ، ما هي المشكلة في ذلك ؟ انا ايضا لي معتقدي الديني الخاص بي. هل يمنعكِ هذا الاختلاف من الارتباط بي ؟

– لا يمكن ان نفترق بالتأكيد. لكن اهلي لن يقبلوا بكَ . و ربما اهلك سوف يرفضونني ايضا.

– هههه .. اذا كان الأمر متعلقا بي فلا تقلقي ابدا ، فقد توفى والديّ. و حتى والدتي التي ربتني ماتت . انا مقطوع من شجرة ، ههههه …

– لا تضحك ارجوك. الأمر اخطر مما تتصور .. ، ارجوك لنذهب قبل ان يتوقف المطر وتكتظ ساحة قلعة اربيل بالناس، فربما يشاهدني معك احدٌ من معارف اهلي  وتحدث لي مشكلة.

قطفتُ لها وردة حمراء من ساحة اربيل . شممتُ عطرها بقوة ، ثم غرستها في شعرها الكثيف من جهة اذنها اليسرى . ابتسمت لي. أمسكت يدها بقوة ، ومضينا ..

بعد شهر من اللقاءات اليومية في الجامعة ، اختفت أمنية فجأةً . سالت عنها زميلاتها في السكن الجامعي ، فقلنَ لي ان رجالاً من سنجار جاءوا و طلبوا منها المغادرة معهم ، ولما قاومتهم ، ضربها احدهم ، و اركبها في سيارتهم بعنف. هددونا بالقتل ان أبلغنا الشرطة .

ذهبت فورا الى مركز الشرطة وابلغت عن اختفاء أمنية . رويت لهم ما سمعته من زميلاتها . في اليوم التالي جاء رجال الشرطة و استجوبوهنَّ ، فانكرن معرفتهن بهوية المختطفتين لها . بعد عدة أيام ، كان خمسة من الرجال الملثمين  يتربصون بي فتبعوني بعد خروجي من الجامعة و ضربوني و اسقطوني ارضاً. صرخ بي احدهم مهدداً : ( هذا اخر تحذير لك انسَ أمنية… و الا سوف نقتلك وندفنك سراً ، كما قتلناها .. تفووو …! )

ذهبت مرة اخرى لذات مركز الشرطة و اخبرتهم بالاعتداء و التهديد. قال لي ضابط الشرطة: ( اخي ، اسمع نصيحتي  ابتعد من هنا. هؤلاء الناس لا يحذرون مرتين ، شرف البنت عندهم عزيز ). قلت له : ( اخي ، والله ما عملت مع البنت  شيئاً يغضب الله أو الناس. هي زميلتي و ليس لها هنا احدٌ من اهلها. ارجوكم ابحثوا عنها واعتقلوهم ، لعلهم عصابة لخطف البنات ).

في اليوم التالي وقبل وصولي الى محل سكني , اطلق علي النار احد الملثمين ، الذي كان يجلس خلف سائق دراجة نارية مسرعة ، لكنه اخطأ الهدف بإعجوبة ! قررت من لحظتها ان اسافر خارج العراق فليس لي من التجئُ اليه ليحميَني من القتل. ثم ابتدأتْ رحلة الهجرة المضنية …

# كابوس الليلة الثالثة (كابوس ليلة يأجوج و مأجوج الاولى!)

سافرت روحي الى مكان غريب وجدت فيه اشخاصاً ، بعضهم من الاحياء والاخرين كانوا أمواتاً ، اجتمعوا معاً. عرفت منهم أمي ميادة و ماما زكية و اصدقائي سعد و سعيد و اخرين غرباء لا اعرفهم. كان مكانا يقع خارج مدينة البصرة ، لكنه ليس بعيدا عنها. اضواء المدينة كانت تومض من بعيد كنقاط صغيرة كنجوم في سماء مغبرة. قلت لهم: ( كيف اجتمعتم سويةٍ ، فبعضكم لا يعرف الاخر ، فمنكم الاحياء ومنكم من قد مات منذ سنين بعيدة ؟ ) ، اخذوا يتكلمون سويةٍ ، لكن ازيز الطائرات كان يغلبُ على اصواتهم ، فلا اسمع منها شيئاً. كنت ارى أفواههم تصرخ ، وجوههم تصبح اشد شحوبا  الشظايا تمزق اجسادهم ، والدماء تجري من اطرافهم. بعد فترة ذهب صوت الطائرات، فبدأت اسمع كلأمهم . قالوا لي الان صرنا كلنا أمواتاً . لا تخشى شيئا سوف تأتي الينا قريبا. و ابتدأوا  بالمغادرة و الاختفاء واحداً بعد الآخر . أمسكتُ بيديَّ أمي ميادة ،و قلت لها (لا تتركيني يا أمي وحيدا) . قالت: ( لا تخف يا بني ، هذا حلم ! الم احذرك ان  لا تخاف في هذه الحياة ، فهي حلم ايضا!  عليك ان تسافر بعيدا لتصل الينا، فنحن بانتظارك في مكان جميل غير هذا المكان الموحش. لكن احذرك من المياه فهي سوف تُغرق قلبك . واحذرك من الوحوش فهي ستطاردك لتسرقه. سنذهب الان ، اتركنا نذهب ..)

رحلت روحي مجددا ، مررت على قرية صغيرة تقع على تلة محمية بسور وحول السور يحتشد وحوشٌ كثيرون ، اجسادهم وملابسهم ملابس البشر و رؤوسهم كرؤوس الحيوانات المفترسة ذئاب و نمور و دببة و اشكال مشوهة تجتمع فيها صفات بشرية و حيوانية . كانوا يحملون اسلحةً مختلفةً سيوفاً و رماحاً و بنادق و مسدسات و الات حادة بأشكال مختلفة منها طويلة و اخرى قصيرة . كانوا بالآلاف يصرخون لكي يهدموا السور و يدخلوا تلك المدينة الصغيرة . عرفت روحي انهم جاءوا  لكي يقتلوا أمنية . بحثت عنها في كل انحاء المدينة فلم اجدها. سمعت اصواتهم المرعبة مرة اخرى تقترب. اخيرا رايتها وقد أمسكوا بها وقطعوا راسها و وضعوه في اناء فيه ماء ، الدماء تنزف من عينيها المغمضتين. شفتاها تصرخان طلباً للمساعدة ، لكن  لا يخرج منهما سوى فقاعات تصعد الى سطح الاناء. قالوا لي ، اذا كنت تحبها بصدق القِ بنفسك في الماء . قلت لهم الاناء صغير لا يتسع إلّا لرأسين فقط !  رأيت روحي داخل الاناء الصغير..، اغرق في أمواج بحر كبير و تجرفني أمواجه ، ابحث عن أمنية في كل أمواج و شعاب البحر المرجانية و كهوفه الخفية في الاعماق ، لا اجد شيئا سوى المحارات الصغيرة تدخل في فمي فأخرجها ، و اعشاب البحر تسد فتحات انفي وتحجب الرؤيا عني. احاول ان اصعد الى السطح . المياه يزداد لونها دكنة و رائحتها عفونةً . احس بدبق يجتاح جسمي. اصل الى السطح … السطح احمر دموي .. ادرك اني اسبح في بحر من الدم .. ارى راس أمنية و قد طفا على السطح ايضا لكنه بلا جسد .. اصرخ باسمها .. اصرخ .. أمنية  ..أمنية … أمنيتي … اخيرا  يجيبني صوتها من قاع البحر: (انا و كل الغرقى سنسكن قاع البحر الى الابد.. انج بنفسك … اخرج من الحلم قبل ان نغرق معا ً، استيقظ ….  استيقظ … ، …).

في الجلسة الاسبوعية ، وبعد ان اطلع (Dr. Goody) على ثالث الكوابيس ، اخبرني ان هذه الأحلام تثبت اني من اولئك الناس الذين يدركون انهم يحلمون اثناء نومهم او ما اسماه بالحلم الواعي. و إن بإمكاني أنْ اطور نفسي فاستطيع ان اصمم أحلامي فلا تتحول الى كوابيس وهذا الأمر لن يكون سهلا اذا بقيت في كيرونا ، لان الساعة البيولوجية المرتبكة لجسدي سوف تُصعِّبُ الأمر علي. اعطاني بعض الارشادات والتعليمات لكي اتحكم بحلمي وكتب لي رسالة الى زميل له بمعهد طبي في لندن لكي يساعدني على اكتساب هذه القابلية . وقال لي انه سيرسل نتيجة التقرير الى شركتي و ينصحهم بنقلي الى فرعهم في لندن. شكرته على لطفه و نصائحه الثمينة . ثم قمت وودعته فأوصلني الى باب عيادته ، قائلا : (اتمنى ان نلتقي قريبا ، يا صديقي) .

بعد اسبوع صدر أمر نقلي الى فرع الشركة في لندن . فغادرت كيرونا ، على أمل ان تغادرني كوابيسها .

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *