الابحار الخامس – خاتمة كتاب المحو

استيقظت صباحا على صوت الجرافات التي بدأت بهدم البنايات القديمة في ضواحي المدينة. كنت مستعدا لهذه اللحظة الحاسمة ، و المغادرة سريعا. فقد اعددت حقيبتي التي احتوت على بعض الاشياء الشخصية و جهاز حاسوب شخصي ، من الانواع القديمة التي لا تحتوي على شريحة تسمح لهم بتعقب مواقعي و غير مصل بالشبكة الدولية. و اخفيت في الجزء السري من الحقيبة كتاباً قديماً دائري الشكل. سلمه لي والدي قبل ان يختفي في المنطقة التي يسمونها الان بالمنطقة الحمراء . التي تقع بين الجمهوريات النفطية الثلاث ، او ما يطلق عليها شعبيا بـ جمهورية البتران . كنت في عجلة من أمري خشية ان يتم توقيفي بتهمة السكن في منطقة غير مصرح باستخدامها أو بالجرم الاكبر ؛ وهو الاختفاء الرقمي ؛ وذلك بقطع تواصل هاتفي النقال وشريحتي البيولوجية المزروعة في معصم يدي ، والتي شققت موضعها في ادمة جلدي لاستخرجها ، و أُلقيت بها في مكان مهجور. وذلك لكي لا يعثر عليَّ النظام الكبير للمعلومات (Big Data) ، أو يتعرف على ناشري المدونات. اصبحت  الان شخصاً خارجاً عن القانون. حيث احمل التصنيف الاخطر وهو شخص عدائي. فالنظام الكبير للمعلومات يُصنِّف المواطنين الى ثلاث درجات أساسية هي : شخص متعاون يرمز له في النظام باللون الاخضر ، شخص غير متعاون يرمز له باللون البرتقالي ، شخص عدائي يرمز له باللون الاحمر. كنت احاول ألّا اسمح لخيالي بتصور السيناريو الأسوأ الذي قد أوجهه ، أمنع نفسي من تخيل عملية القبض عليَّ و تقديمي للمحاكمة خشية ان تتسامى مخيلتي و تجذب مصيري للتحقق على هذه الصورة. فتكون صفحة كتاب المحو مقاربة لمصير الاثبات . كما  قال بصير القرية لسعيد البصري قبل ان يسلمه الكتاب ، قائلا :

( تلميذي النبيه .. اعلم ان كتاب المحو ليس من اوراق مادية فهو لا يحوي سطوراً من مداد الحبر او حروفٍ مطبوعة . انه كلماتٌ القدر التي تكتبها  نفسك الانسانية  حين تتسامى الى ما تريده بمحبة و معرفة ، فتجذبه بقوة اليها كما يجذب المغناطيس قطعة المعدن ، بما يمكن تسميته : قانون الجذب الاعظم . فاذا ما كانت النفس تتطلع الى عالمها الاعلى فأنها تجذب كل خير و سلام و انسجام مع طبيعتها و كينونتها الحقة أما اذا تطلعت النفس الى عالمها الاسفل فسوف تجذب كل شر و عداء و تناقض مع طبيعتها . فنفسك الكونية هي مَنْ تختار ماذا تريد ان تشاهده من صفحات كتاب المحو. و قد اوحيت لمخيلتكم الطفولية المحبة للقصص و الحكايات ، ان هذا الكتاب قد اهداه لي رجل عجوز اثناء زيارته لآثار بابل القديمة. وذلك لتقريب المعنى لأنفسكم التي كانت في طور طفولة الادراك. و لم تألف كل هذا التعقيد في ادراك درجات تسأمي الروح ورؤيتها لمصيرها البرزخي خارج اطار خدعة الزمن . وهو ما لم تكونوا لتدركوا معناه حينما كنتم في عمر المراهقة . أما اليوم وقد تجاوزت الستين من عمرك ، ولعلّك اكثر تلاميذي الذين اجتهدوا في تمحض الخيال مبحرا من شاطئ الأحلام لتخوض في غمار محيطات كتاب المحو. فيحق لك ان تعرف الحقيقة ، بان كتاب المحو يكمن في داخل كل انسان. فتشاهده نفسه الانسانية وتجذب ما يوافق قابليتها و ميلها للخير او للشر. فاعلم ان كتاب المحو الدائري يبتدئ حيث ينتهي. فمقدمته هي ذاتها خاتمته ، من غير تقييد لإدارة الانسان في تقرير مصيره او عبثية عقيمة لا تعطي معنى او هدفاً لوجوده ، كما رسخ في ذهنكم حين كنتم تستمتعون برواية الرجل العجوز عن كتابه الرملي الخيالي. فابتدئ بقراءة خاتمة كتاب محوك حين تحين ساعة الحقيقة لتعرف مصيرك …)        

اخذت اركض بين الازقة القديمة بينما كانت الجرافات العملاقة تهدم البنيات المتداعية .. هاربا منهم للوصول الى المنطقة الحمراء حيث جمهورية البتران التي تم حصارها من قبل الحكومات المُسيرة بواسطة الشركات العالمية .. اركض مسرعا … نبضات قلبي تتسارع … استنشق غبار الاتربة المتصاعدة من المباني المتساقطة … صدري يضيق … ، …… ، …. روحي تقرأ في خاتمة كتاب محوها ……..

(( وصلت الى جمهورية البتران ليلا ، كانت الاضواء القليلة الخافتة تنذر بان خلف هذا الظلام تحتشد الآلاف من جنود يأجوج و مأجوج . بعد ان  ادركوا ان هذه المناطق باتت غير محمية من قبل الدول صاحبة الجيوش المدججة بأحدث الاسلحة . فسكان جمهورية البتران من الناس المسالمين هم من غير المسلحين في الغالب. و القليل منهم من يملك بنادق للصيد او رشاشات قديمة ، اغلبها قد اصبح صدئاً وغير صالح لإطلاق النار. بل يقتصر استعماله في استعراضات حفلات الاعراس او الجنائز العشائرية. كانت نشرات الاخبار ؛ التي كنت استمع اليها من خلال مذياع صغير احمله معي ؛ يستلم البث من محطات ارضية خاصة بالشركات العالمية. توكد انتشار عصابات المافيا في المنطقة الحمراء و تحذر سكان المجمعات السكنية من محاولة دخولها لزيارة اقاربهم هناك خشية تعرضهم للقتل او الاختطاف او السلب. و تذكيرهم بان اجتياز الحدود يُعد جريمة يعاقب عليها القانون . كنت قد خرقت كل القوانين الى غير رجعة. لم يعد لدي شيءٌ اخسره. علي ان اصل الى ابي و رفقائه قبل انتصاف الليل لأحذرهم من المصير ؛ الذي شاهدته في كتاب المحو ؛ و الذي ينتظرهم بعد نشر مدوناتهم. فستحل عندها ساعة الصفر لهجوم يأجوج و مأجوج ، التي يتم التمويه عنهم في اعلامهم بانهم ينتمون لعصابات المافيا المحلية التي تقوم بالخطف والقتل من اجل سلب الأموال. وفي الحقيقة ، هم جيوش سرية منظمة لاغتيال قادة جمهورية البتران و الكفاءات  العلمية و الفكرية . لإجهاض تجربتهم في اقامة دولة دون حكومة بوليسية عميقة . دولة تضم شعباً متآخاً ، لا يحكمه الخوف ، او الارتباط بالمصالح الاقتصادية المشتركة ؛ مثل الشعب السياسي ؛ الذي تم تربيته في إسطبلاتهم الفكرية ، التي تحط من قيمة الانسان لتصل به الى الحيوانية المُرفهة ! ..))

كنت احاول الاسراع في تصفح كتاب المحو ، محاولا الوصول الى وقت ومكان الاجتماع الذي سيجمع الاصدقاء الثلاثة في احدى غرف بناية وزارة البيئة لجمهورية البتران ، التي تقع عند نهر صغير مندرس ، يتفرع من نهر شط العرب الذي جف منذ بضعة اشهر.

حينها كان سعيد البصري يكتب مدونته الأخيرة :

(( اننا في منتصف شهر ايار عام 2040 ، و بعد موسم شحيح بالأمطار، لم يعد من السهولة الحصول على ماء صالح للشرب او الاستحمام لا في المدن الكبيرة المزدحمة بالسكان و لا في المناطق الزراعية المتاخمة لنهري دجلة والفرات. حيث تم تدمير كل السدود التي كانت تساعد على تجميع مياه النهرين في منخفضات الثرثار و الحبانية و غيرها من التجمعات المائية . وتم بناء سدود بديلة قرب الحقول النفطية لتزويدها بمياه الحقن المستعملة في تعويض النفط المسحوب من طبقات التربة. لتزويد التجمعات السكانية المحيطة بالمناطق النفطية بمياه الشرب والاستعمال اليومي. وكذلك فان الروافد التي تنبع من خارج ارض الرافدين ، قد تم حرف مسارها لكي لا تتصل بأنهار البلد . وبذلك فقد جفت المياه في اهوار جنوب العراق ، و لم يعد نهرا دجلة و الفرات يلتقيان عند شجرة آدم. اذ تم تغيير مسارهما ، اللذَين اصبحا يصبان في مجموعة من البحيرات الاصطناعية المحيطة بالمجمعات السكنية لجمهورية نفطستان الجنوبية. فأخذت تخرج من المساحات المائية التي جفت غازات سأمة وروائح منتنةٌ نتيجة لتفسخ جثث الجواميس والطيور والاسماك النافقة. فتصحرت غابات النخيل ، التي كانت تشكل حاجزا طبيعيا يصد العواصف الرملية . فأخذت تهب العواصف الرملية السأمة بصورة متكررة ، مما سببَ اختناق الكثير من سكان جمهورية البتران وخاصة المصابين بالربو و الأمراض التنفسية والسرطانية. فاكتظت المستشفيات ، و تفشت الأمراض الوبائية. كانت حرب المياه هي السلاح الاشد فتكاً ، الذي قامت به الجمهوريات النفطية ضد سكان جمهورية البتران. الذين لم ينسوا يوما حروب الترويع و الصدمة ، المستمرة منذ سنين طويلة !)).

اكمل سعيد تحميل مدونته التي حاول من خلالها تحليل مستجدات التغيرات البيئية التي حطمت بيئة بلاد الرافين، وجعلت جمهورية البتران تحت حصار مائي خانق. جلس بعدها  قلقاً في مكتبه ، ينتظر وصول صديقيه مسعود كاكا علي و سعد الاعظمي للتباحث معهما حول مصير آلاف السكان المحاصرين مائيا من قبل الجمهوريات النفطية و دول الجوار. و كذلك فقد تم حصارهم بحشود جيوش يأجوج ومأجوج السرية التي ما انفكت تغتال المتبرعين لإدارة الوزارات و المنظمات الانسانية و الفكرية و الحاصلين على لقب معلم او ملهم الشعب. كاد القلق ان يقتله ، فقد اختفيا منذ  اكثر من ثلاثة أيام . كان يخشى ان يكونا قد تم تصفيتهما الجسدية بعد ان انتشرت باسمهما عدة مدونات تكشف المؤامرات التي خططت لها القوى العالمية و المحلية لنشر الفساد الفكري و المادي بين سكان وادي الرافدين و تحطيم البلاد اقتصاديا و اجتماعيا . فكر انه سيكون الضحية التالية اذا ما استمر بنشر هذه المدونات. رغم انه قد استعمل اسما مستعارا (Nick Name) هو سعيد البصري كما هي حال اسماء اصدقائه المستعارة مسعود كاكا علي و سعد الاعظمي . والتي اصبح الجميع من اصدقائهم و معارفهم ينادونهم بها. حتى نسي الجميع اسماءهم الحقيقية .وهو ما يفسر انهم اصبحوا بعد اختفائهم مجردَ اشخاصٍ الكترونيين لا وجود حقيقي لهم. بل و يشكك الكثير من المتصفحين بحقيقة حدوث رواياتهم التي ذكروها في مدوناتهم. فهي على الارجح من خيال مدون شاب يسكن في احدى المناطق المهجورة ، فكان يقوم بكتابتها من وحي مخيلته. و بعد التحقق و الاستفسار من قبل الكثير من قراء مدوناتهم عن قصة إعدامهم ، تبين انها القصة الحقيقية الوحيدة التي حدثت . فقامت (ادارة الادلة الجنائية / شعبة المقابر الجماعية ) بالبحث و التنقيب في احدى المقابر الجماعية على جانب الطريق الصحراوي المؤدي الى منطقة خور الزبير احدى اقضية مدينة البصرة. فقد تم التعرف عليهم ، بعد استخراج ما بقي من عظامهم. و تحليل الحامض النووي DNA ، ومقارنتها بالأحماض النووية لأقاربهم الباحثين عنهم ، و الذين تسلموا بقايا جثامينهم ! ))

حينما وصلت صفحتهم في كتاب المحو الى سطرها الاخير ، علمت اني لن اجد  الاصدقاء الثلاثة في المكان المحدد لاجتماعهم ، فقد ماتوا منذ سنين طويلة، و ارتفعت ارواحهم الى السماء لتقرأ سطور كتاب محوها. لتوحي لي بكامل المدونات عن طريق التخاطر الفؤادي او ما كان يدعوه القدماء بملاك او شيطان الكتابة. لقد تطلب مني الاستعداد لتلقي كلماتهم مائة يوم من العزلة. فرَّغتُ خلالها قلبي لتدوين ما كانت ارواحهم المغدورة تشكوه لي. فبدأت بنشرها بالتسلسل الذي وردني من خلال بوابة تور (Tor) ، التي تؤدي الى الوب المظلم (Dark Web) المستخدم من قبل الراغبين بإخفاء عناوينهم الرقمية عن العين التي ترى كلَّ شيءٍ ، النظام الكبير (Big Data) ؛ الذي كان يرمزون له في روايات  وادبيات القرن الماضي (بالأخ الاكبر) ! فكأنما كنت الجُ من خلال تلك البوابة الرقمية السرية الى نهاية النفق البرزخي الفاصل بين ظلمة القبر ، حيث ترقد جماجمهم المنخورة ، وبين ذلك النور الساطع الذي تطل منه ارواحهم الساهرة لتروي لي المدونات.

بدأت بالبحث عن الاسباب التي ادت الى وصولهم الى لحظة الوقوف أمام فصيل إعدام ينتمي افراده الى نفس دمهم و لغتهم و دينهم و وطنهم . كنت اريد معرفة القاتل الحقيقي ، ذلك القابيل الفاقد لإنسانيته و الراغب بقتل اخيه هابيل عبر العصور و الاجيال ! فأطلقتُ نداءً عبر الشبكة الدولية بعنوان (# من قتل ابي ؟ ) ، فقام العديد من المدونين الشباب الذين قُتل آباؤهم في الحروب و الاغتيالات و السجون و التفجيرات الارهابية و الأمراض الوبائية و السرطانية بكتابة افكارهم و تصوراتهم عن هذا السؤال. بابتكار سيناريوهات عددية عبرت عن الحروب والمآسي و المؤامرات التي حدثت بالفعل  في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي. فتم نشرها في هذا الموقع  تعليقا على المدونات المنشورة.

فكتب احد المتصفحين الذي استخدم اسما رقميا :

 

( # المجنون_معركة جبل الذهب ) 

لقد قتل ابي من التعذيب في السجون . بعد ان اصبح مجنونا، يظن نفسه جاسوساً سريا للحكومة العالمية المتآمرة على البلاد ، عن طريق زراعة شريحة في دماغه. مُدَّعياً انهم يقومون بتوجيه دماغه ، عن طريق ارسال اشارات مشفرة الى تلك الشريحة. فاخذ يهذي بنظريات فلسفية و اقتصادية و سياسية ، تُنبئ بحدوث كوارث ستُودي بحياة الناس و حروب مستقبلية ، ستجعل البلاد تنقسم الى عدة اجزاء متحاربة . كان يصرخ مرتعباً من شبح امرأة تلاحقه تُدعى لورا. يَدَّعي انها الافعى التي تحرس برج بابل الاكبر . و انها سوف تقوم بتسميم افكاره ليقوم بدوره بنقل العدوى الى ابناء بلده. و يجعلهم يتقاتلون فيما بينهم ، من اجل الاطماع في اقتسام قطع الذهب التي تناثرت في مياه الفرات. كان يصف لنا بخوف جفاف النهر شيئا  فشيئا ، لينحسر الفرات عن جبل من الذهب يتقاتل عليه الناس . فكان يتحدث عن كائنات نصفها بأجساد بشرية مغطاة بالطين بالكامل و نصفها الاسفل على شكل حيوان مفترس ، تغوص ارجله في طين النهر. متصارعة للحصول على القطع الذهبية ،التي قد تم اقتطاعها من جبل الذهب. كانوا يتقاتلون بشراسة في معركة لا رابح فيها. فيُقتَل من كل عشرة منهم تسعة ضحايا . يشبع من لحومهم الوحش و الطير. و يهيم العاشر على وجهه في البرية حاملا حفنة من القطع الذهبية ليموت من العطش والجوع تحت لهيب شمسٍ لا ترحم !

كان ابي يصيح ماسكا راسه من الالم : ( سامحيني يا حبيبتي أمنية لم أُخلِّصكِ من معذبيكِ لم انقذكِ من مغتصبيكِ ) .

بعد ان بحثنا طويلا عمّن كان يعرفهنّ من الفتيات في أيام دراسته ، عرفنا ان فتاةً كانت تُدعى بهذا الاسم تعرضت الى حادثة قتل بدافع غسل العار قام بها بضعة رجال من عشيرتها. و ان ابي قد اصبح نصف مجنون منذ ذلك الوقت . و أُودع في مستشفى الأمراض العقلية بعد عشر سنين من زواجه من أمي لأنه رأى في احد كوابيسه ان مغتصبي أمنية قاموا باغتصاب أمه الشهيدة و مربيته ماما زكية! فهام على وجهه في البرية و اصبح مجنونا بالكامل وتم حذف اسمه من حملة الشهادات العليا في جامعة العقل البشري. فكنت آتي لزيارته في المصحة كلما سمحوا لي ، لأسجل ما كان يرويه لي من كوابيسه. و كانت اشدها قسوة تلك التي حدثت خلال سنوات اغترابه لإكمال دراسة الدكتوراه في مدينة لا يتذكر اسمها. لكنه يتذكر ان الشمس لم تكن تشرق فيها  لأكثر من خمسين يوما. فبحث في الخريطة و اخترت بعشوائية اسم مدينة من المدن الإسكندنافية ، فاطلقت على كوابيسه ( # كوابيس كيرونا ) !

 

و كتب تعليقا آخر متصفحٌ ثانٍ ، اختار اسما رقميا بعنوان :

(# الحالم _شاطئ الالغام)

حينما ادرك ابي النهرَ ، نجا بجسده من قنابل النّابالم . لكن روحه سكنت فوق حفرة القبر الجماعي التي ضمت أمه و اباه و اخاه و اخواته والكثير من اهالي القرية الذين تم ابادتهم ليلتها. اخذ يجر جسده المحروق العليل في كل منافي الدنيا و مدنها الكئيبة. كأن جسده حقيبة تنقصها الروح لتطير في سماوات أحلام اليقظة الرحيبة. حين جلس أمام الشاطئ كاد ان يضيق عليه افق البحر، لولا فسحة الحلم ! اخذ يحلم بكامل المدونات التي كتبها في غربته . استسلم لغواية الحلم الذي كان يمنح جسده الضئيل المحروق قوى خارقة تمكنه من مقاومة الوحوش التي كانت تريد ان تفتك باهله و اهل قريته . اخذ من القوى ما ناسب مُخيَّلته و جعلها كآلة تصوير تقوم بها عينه المفتوحة على سماء المخيلة. صوَّر كلَّ مَنْ عرفهم من اصدقائه و اقربائه : رزوقي ، الخالة أم أمل وابنتها ، الاطفال الذين كان يشاركهم اللعب في ملعب كرة القدم ، شاعره المفضل المقطوع اليدين ، حكواتي القرية الذي كان يلهب مخيلته بقصصه الخرافية الجميلة و أخيرهم وليس بآخرهم معلم طفولته بصير القرية بكتابه العجيب الذي لم يره احدٌ يوما ، الذي يحكي عن عوالم متقاطعة من مصائر البشر . كانت عيونه تدمع بصمت حين يتذكرهم متمنيا  لو كان يستطيع ان يعود لقريته واهلها الذين افنت قنابل النّابالم اغلبهم. و هاجر من نجا منهم ؛ مثل ابي ؛ الى مدن اخرى. اذ لم تعد قريتهم ؛الملوثة بكل انواع الاسلحة المسرطنة؛ صالحة للعيش. و تم عزلها واعتبارها منطقة محرمة دوليا و غير صالحة للحياة الى الابد !

حين ادرك ابي سن الاربعين ، لم يكن في العمر بقية  ليبدأ حياة جديدة ، و لم يكن ما بقي من عمره قليلاً جداً ليصبر على وحدته حتى الموت . فاختار اوسط الحلول و اقلها شرا ، فتزوج من صاحبة السكن القديم الذي اضحى المستأجر الاخير فيه . تلك المرأة الطيبة هي أمي ، التي كانت في الأربعينات من العمر ايضا ، مسلمة من اصول هندية .فكوَّنا اسرة سعيدة و انجبا ولداً وبنتاً ، فكنت انا ذلك الولد ، الذي تعود ان يصحب اباه في جلساته عند شاطئ الاحلام. حيث اوصتني أمي ان احاول ان اعيده الى عالمنا حين يتيه في عالم أحلامه حين بلغ السبعين من العمر. فكان يهذي بحكايات خرافية عن جمهوريات نفطستان و جمهورية لا ديمقراطية للبتران. احسب انه ادَّعى مراراً بانه حاكمها او وزيرٌ للبيئة  فيها او احياناً يكون في بعض أحلامه قاطعاً للتذاكر في احدى سينماتها ، او منظفاً في احد ازقتها . كان يروي لي في كل مرة تفاصيل تختلف عن سابقتها. لكن ما كان يتذكره جيداً و لا ينساه ، ان اصدقاءه كانوا يعتبرونه قطبَ اجتماعاتهم. فهو همزةُ الوصلِ وهو محورُ النقاشِ ، كان ذكياً و محبوباً من الجميع . كما كان يحلو لمعلم قريته ان يسميه تلميذي النجيب . لكنه كان يدخل في نوبات من الحزن و الكآبة حين يستمع لأصوات مشوشة وغامضة تأتي على كل أحلامه و تشوشها و تشتتها . ولما كنت اسأله ما الذي يجعله يقطع تلك الأحلام الصافية فلا يعود يتكلم الا بأصوات غير مفهومة  تشبه النحيب المكتوم . كان يردد دون توقف حتى يدخل في سكته دماغية مفاجئة :(الالغام .. الالغام .. انها تتفجر في كل مكان ..احذرها يا بني.. الالغام ..). كنت ممسكا بيده حين انتابته موجة عاصفة من الرعشات العصبية لعلها موجة من الرعب او ربما ؛ كما اعتقدت وقتها ؛ انها موجة عنيفة ضربت ساحل أحلامه . فأدخلته في غيبوبة دماغية ، لتنخر ذاكرته ، كما ينخر عظامه برد شاطئ البحر في بورتسموث، حيث غرق في جلسة أحلامه الاخيرة. و لم يعد لجمهوريته الحلمية ابداً ! 

 

تفاعل متصفح ثالث  للتعليق على موقع المدونات باسمٍ رقمي:

  ( # رسائل_رمال_الروح )

لم تفارق ابي روحه المرحة حين اصبح في السبعين من عمره ، فكان يناديني ممازحا : ( تعال يا  ابن الاسود ؟ ) . لم اعرف ماذا يعني بهذه الكنية الظريفة الا بعد ان بدأت بقراءة رسائله التي كان يحتفظ بها في صندوق سري بعيدا عن عينيّ أمي الغيورة كعادة النساء في كل الازمان . كانت اوراق الرسائل تلك مصفرة و ممزقة الاطراف . و خطوطها باهتة لدرجة انها يصعب قراءة الكثير منها. الا انه ما يزال محتفظا بها رغم ضعف بصره وعدم قدرته على فك رموزها . وحين كنت اسأله عن مضمونها . كان يتلفت بخبث ومرح ، ويقول بصوتٍ خافت : ( قصر صوتك ، لا تسمعنا امك ؟ ) فيثير فيّ قهقهةً احاول ان اكتمها حتى يومي هذا ، لكنها تغلبني ، فتنبعث ابتسامة رقيقة  من اعماق روحي المشتاقة له ؛ لتطفو على محياي . فابتسم معه كأني ما ازال اشاركه سره الاثير رغم مرور سنوات طويلة منذ ان فارق الدنيا . تذكرت قسمات وجهه وهو يسرد عليَّ كلمات رسائله السرية. كأنه يحفظها عن ظهر قلب . واذا ما نسي شيئا من سطورها فانه يصمت طويلا و لا يتكلم مع احد ، ويدخل في تحدٍّ مرير مع ذاكرته حتى يتمكن من كسب التحدي و اقتناص فريسته من الكلمات الهاربة في صحراء حفر الباطن ، حيث كان يكتب رسائله في مخيم رفحاء . لم اكن اتجرأ يوما على سؤاله : لماذا يحتفظ برسائل ، يُفترض انه ارسلها الى اشخاص اخرين ؟ ولماذا لم يحتفظ بردود من كاتبهم من النساء والرجال ؟! كانت رسائله تفيض بالشوق و العتاب و الاحساس بالاغتراب عن الزمان و المكان . كانت اغلب كلمات الشوق و الغزل موجهة الى عيون فتاة كويتية جميلة اسمها نورا. كان يبدو انها قريبته التي تربت معه في ذات البيت . لكنهما لم يتبادلا البوح بمشاعر الحب ، الا بعد فراقهما . فاصبحا يتواصلان بالرسائل المكتوبة ، وذلك قبل ان يكتشف العالم شيئا اسمه ، الانترنيت. و للحقيقة ، اني لم ارَ يوما ولو رسالة واحدة بخط نورا. فكنت اعتقد ان ابي قد احرقها ، خشية ان تعثر عليها أمي يوما ما. لكني اكتشفت بعد رحيله ؛ حين صارحت أمي بشان الرسائل؛ ان نورا استشهدت منذ زمنٍ طويل ، قبل ان تتعرف أمي بابي. وجدت ايضا رسالة كتب على ظرفها الى خالي أبي وطن المحترم , يطلب فيها من خالٍ له يسكن بغداد ، ان يستضيفه في داره التي تقع بقرب نهر دجلة. لكنه ربما نسي ان يرسلها له كعادته. او ربما ان الشخص الذي كلفه بإيصالها الى بغداد لم يهتم كثيرا لها بعد ان اختلطت مع باقي اوراق حقيبته . فما كان منه الا ان اعادها لابي بعد ان اكتشف انه فضل تقديم طلب اللجوء الانساني ، كما فعل الاف من العراقيين . فتم قبوله كلاجئٍ انساني في الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث اختار العيش في مدينة هيوستن بولاية تكساس ، كونها تشبه في اجوائها مدينة الكويت بشمسها وبحرِّها . فتعرف هناك على فتاة عربية جميلة , مغتربة مع اسرتها . تزوجها ، لتنجب له ثلاث بنات و ولدا . فكان ابي يختصّني بالاطلاع على رسائله التي استمر بكتابتها حتى قبل موته بأيام ، حين ناداني : (يا ابن الاسيود ، وينك؟ تعال يا بعد ابوك.) واخذ يُحدِّثني عن الثروة التي سيخلّفها لي. و اوصاني ان احفظها من الضياع الى الابد ، بان انشرها في كتاب !

لم تعد الكتب المطبوعة تلقى رواجا في زمني. و لم يعد يطبع ورقيا من الكتب الا الكتب المقدسة. فلم اجد حلا افضل من نشرها كمدونات تنشر على الشبكة الدولية للمعلومات. ولما كنت في الرابعة عشرة من العمر ولم اعِ خطورة ما احتوته فقد نشرتها باسمه المفضل لديه ( سعد الاعظمي ) واسميتها كما اوصاني ( # رسائل الرمال  ) .

بعد سنين طويلة ، تم القبض عليَّ من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA بتهمة التآمر على الأمن القومي. فقد تم استجوابي من قبل محققين أمنيين و خبراء في فك الشفرات السرية للتجسس. حيث اكتشفوا بعد انفجار الوضع السياسي و الأمني في بلاد ما بين النهرين والشرق الاوسط . ان المدونات التي نشرتها قد احتوت على كأمل الخطط التي انتهجتها المنظمات الارهابية السرية في صنع الدجالين و كيفية تخطيطهم لصنع المؤامرات السرية ضد الشعوب و الحكومات. و الاخطر انها تضمنت اتهامات صريحة لحكومات الولايات المتحدة الأمريكية بانها راعيةٌ للإرهاب السري في العالم. تلعثمت وقلت لهم بان ابي قد اصيب بداء الزهايمر في اخر أيامه وبانه كان يدَّعي بانه يراسل اشخاصاً آخرين ، لكنه في الحقيقة ، كان يكتب رسائله لذاته المسجونة في الوهم ، منذ ان علم بموت نورا. فبقي يكتب رسائله لروحها و يتعهد بان يرسلها لها في الغد ، ثم يتذكر بانه لم يضع الطوابع البريدية. فيخفي الرسالة عن أمي و يبدأ بكتابة رسالة جديدة. حتى تكومت في صندوقه السري رزم من الرسائل غير المرسلة ، والتي لا تحتوي على عنوان بريدي ! بقيت الرسائل زمنا طويلا حتى خرجت من بين ثنايا سطورها ارواح طيبة. كروح أمه و نورا و خاله (ابي وطن) و صديقيه سعد و سعيد ، اللذين شاء القدر ان يكون بينهم تعارف في شاحنة إعدام ، كما شاء ألّا يلتقي بهما بعد ذلك اليوم ابداً ! كما تشكلت في قعر الصندوق ارواح فاسدة لمجرمين مثل ، ابي بكر البغدادي و ابي ايوب و ابي أسامة الحراني و غيرهم من الاشرار، الذين عرف كل العالم بتفاصيل جرائمهم بعد نشر المدونات.

قلت لرجال الاستخبارات الأمريكية و السادة القضاة في المحاكم الأمريكية الاتحادية ، اني كنت في سن المراهقة ولم اكن على اطلاع على كل تفاصيل تلك الرسائل . فقد اقنعني ابي رحمه الله انها رسائل في العشق لمحبوبته نورا ليس إلّا. لم يكن كلامي مقنعا لهم. و تم الحكم عليّ بالسجن و ايداعي في سجن شبيه بسجن بوكا الاسطوري ، الذي ورد في رسائله المشفرة. و قاموا بمعاملتي بوصفي الابن الروحي الجديد للبغدادي ، لأعيش بصورة واقعية تجربة صناعة الدجال !

 

كتب متصفحٌ رابعٌ تعليقا على المدونات مستخدما اسماً رقميّاً :

# ابن البصير البصري

كان عمي فؤاد هو الاب الروحي لي ، فقد كان يعلمني بمواعظه و قصصه الكثير من الآداب و الاخلاق و المبادئ الحكمية . كان يحثني على التفكير في الهدف الاخير لوجودي على الارض ، بأسلوبه الجميل الذي يجمع بين الحكايات الشعبية و الاسطورية و الافكار العميقة. مذكرا اياي ان حياتي السرمدية ستكون بعد موتي هي الاطول و الاكثر اهمية و هي مستقري بعد هذه الرحلة الارضية القصيرة . كان ابي يعمل مع جدي فلاحا في ارضنا الزراعية . فيأتي وقت الغروب الى البيت متعبا بعد نهار شاق طويل قضاه في العمل .أما عمي فؤاد فانه يقضي وقته في قراءة الكتب و رسم اللوحات ، التي كان يبتدع لها اسماء من وحي قراءته القصصية و الحكمية. فكل لوحة تمثل قصة او ربما كتابا او حلما متخيلا من أحلام يقظته التي كانت تستمر لفترات طويلة لا يقطعها سواء نداء جدتي عليه لتناول الطعام او مساعدتها في نقل بعض الاشياء الثقيلة في المنزل . فكان يختلي بنفسه في مكان سري قرب جرف النهر القريب من منزلنا ، حيث يستلقي تحت شجرة العنب بأوراقها الممتدة كبساط اخضر متداخل. ويراقب اشعة الشمس التي تنفذ من خلال اوراق العنب كنقاط مضيئة . يقول لي هكذا هي مخيلتك غشاء مخضر تنفذ من خلاله اشعة شمس الحقيقة لتنير قلبك . كنت ارافقه في كل مكان ، فقد كانت أمي مشغولة عني بالاعتناء برضيعيها التوأمين . فتعطي عمي بعض النقود ليصحبني الى السينما في الجهة الاخرى من شط العرب ، حيث موقع المدينة الذي يسمونه العشار ، الناس هناك كانوا كثيرين بالآلاف ، كان عمي يذهب بي الى احدى السينمات التي تعرض الأفلام الهندية المترجمة الى العربية.  فيجلس بجانبي ليهمس لي ما يظهر على الشاشة من الترجمة. و في بعض الاحيان،  يتفاعل مع الفلم فينسى الترجمة ، فاضغط على يده ؛ التي تستقر على مسند الكرسي بجانبي ؛ فأقول له بهمس : ( شنو جاي يكول البطل ، شنو يكول ) فيربت على راسي مبتسما : ( كلأم خاص للكبار ، من تكبر تعرفه !).

حكى لي ذات مرة عن قصة غريبة لرجل بصير يدَّعي الحكمة ، كان قد التقى برجل عجوز جاء من بلاد بعيدة و اهداه كتاباً غريباً . اسماه الرجل البصير فيما بعد بكتاب المحو ، وهو كتاب عجيب لم يشاهده احد ، وفيه حكايات لأناس يعيشون في ازمان ماضية و أناس يعيشون في المستقبل ، وهم يلتقون من حين لحين ويتبادلون الأمكنة و الازمنة.

حين ابتدأت حرب الثمان سنوات ، ذهب عمي للقتال في الجبهات ، كنت انتظر عودته في كل مرة ليقصَّ عليَّ حكايات القتال و المعارك . لكنه كان يفاجئني برواية ما يحلم به من حكايات متخيلة لقصص و اساطير شعبية ، كنا قد قرأناها سوية او فلمٍ هندي شاهدناه معاً. كان يسألني عن خالتي بهية، هل سألت عنه في غيبته. كان يشبهها بإحدى نجمات السينما الهنديات ، بضفيرتها الطويلة. قال لي همسا : (سوف اخطب خالتك بهية حين اعود في اجازتي القادمة).

ذهب للجبهة. ولم يعد بعدها . قالوا لي ان حقلا من الالغام انفجر من حوله. لم يكن يستمع لنداءات رفاقه بالانسحاب من الحقل حين تفجرت بعض الالغام نتيجة لقصف مدفعي كثيف. قالوا انه كان منغمسا بحلم طويل من أحلام اليقظة ، ظهرت فيه كل ابطال و احداث المدونات التي كتبتها بعد سنوات طويلة .. من بداية حلمه وسط حقل الالغام ، ذلك الحلم البرزخي الذي لازال مستمراً الى يومنا هذا. فقد كنت استمع له كل ليلة يروي لي ، حينما اجلس تحت شجرة العنب و اشاهد نقاط الشمس المضيئة تنفذ من خلال الاواق الكثيفة. فابحر في كتاب محوي الخالد و اتشارك مع كل المتصفحين ما يشاهدونه في كتب محوهم. وانت ايها المتصفح ربما اصبحت الان واحدا منَّا ، ولعلك الآن تقرأ في كتاب محوك و تتخيل ما حدث وسيحدث لك و تشاركنا حلمنا بغدٍ افضل فتقرر و تتصارع مع ظروف حياتك و تجذب بعين نفسك الكونية مصيرك ليتحقق .. كل ما عليك فعله لتلج بيت الرؤيا هو المرور من خلال بابك الصوري ثم دخول بابك الرمزي لتصل الى سر بابك الطلسمي … و ما ان تفتحه ، حتى تكتشف انك قد اكملت قراءات كتاب محوك ..ستكون قد عرفت كل شيءٍ … حينما تقلب الصفحة … تشاهد اباك عائدا من سفره الطويل .. يفتح باب الدار .. يجدك نائما ، ممسكاً بكتابٍ قديم … يعبث بشعر رأسك .. يهمس لك بمحبة : استيقظ ! ….

1 thought on “الابحار الخامس – خاتمة كتاب المحو”

  1. Wonderful work! This is the kind of info that are meant to be shared around the internet.
    Disgrace on Google for now not positioning
    this publish higher! Come on over and discuss with my web site .

    Thank you =)

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *