مدونة مشتركة / 6 ، كانون الثاني ، 2040 / جمهورية البتران
في ليلة راس السنة الميلادية 2040 ؛ الليلة الدامية ؛ التي سبقت اعلانهم تأسيس جمهورية البتران ببضعة أيام ؛ حدثت انتفاضة اخيرة للبتران. انهت عشرين عاما من عصيانهم المدني و مظاهراتهم السلمية و غير السلمية و انتفاضاتهم المسلحة و غير المسلحة. فقد جربوا كل الوسائل المستخدمة من قبل الشعوب الديمقراطية و الشعوب البدائية دون جدوى. لقد منيوا بالهزيمة المطلقة حتى الليلة الاخيرة التي لم تختلف عن غيرها بسوى مفاجأةٍ اخيرة من مفاجآت سياسة الصدمة والترويع. مرت بضعة أيام حتى تعرفوا عليها !
لكن ما احزننا في تلك الليلة، هو اغتيال حكواتي القرية الذي اطلق عليها اسم ليلة يأجوج و مأجوج ، و ذلك قبل مصرعه على يد شخصين كانا يقودان دراجة نارية. اطلقا عليه ثلاث عشرة رصاصة بواسطة بندقية صيد. توزعت الرصاصات على اعضاء جسده ، و ختموها بطلقة اخيرة في الرأس، فاردته قتيلا على الفور. حدث ذلك ، حينما كان يجلس وحيدا تحت شجرة الصفصاف المتيبسة وذلك بعد ثلاثة أيام من نشره حكايته الاخيرة ( اليوم ، كيف تتذكر ذلك العالم المجنون ؟ ). كما تم اغتيال حفيد تومان بعد ان تبعه شخصٌ مجهول وهو يقود سيارته ، و افرغ في رأسه كل عتاد مسدسه ذي التسع طلقات، بينما كان في طريقه الى احدى تجمعات انصاره ليلقي خطابه الاخير . فسقط في صمت ابدي مخيف وسط الشارع. مما جعل الآلاف من مؤيِّديه في حالة هياج و استعداد كبير للعنف. فتَّشنا في اوراقهما فوجدنا وصيَّتين. حكواتي القرية خط وصيته بقلمه القصبي الاثير لديه ، أما حفيد تومان فقد سجلها بصوته الحزين على هاتفه النقال وارسلها لنا. فكـأنه قد نعى نفسه وتنبَّأ بمقتله قبل ان تصل الرصاصات الى صدره! نشرناهما على صفحتهما ، لكي تكون متاحة للتداول من قبل محبيهما. قبل ان يتم الاستحواذ على حسابيهما الالكتروني باعتبارهما لشخصين متوفين. فلم يُسجل وارث شرعي لهما في الشبكة الدولية. فتعمل الحكومات العميقة ؛ المتهمة باغتيالهما جسدياً في العالم الواقعي ؛ لاستكمال مهمتها ؛ باغتيالهما رقمياً في العالم الافتراضي!
# وصية حكواتي القرية
احس انها أيامي الاخيرة على سطح هذه الكوكب المجنون . اصبحت الحياة بخيلة في أمداد القلب بأوكسجين الحلم بغدٍ أجمل . كل الاشياء الجميلة تتلاشى و تذوب في مياه شط العرب الذي اصبح عبارة عن نهر موسمي يمتلئ بالمياه شتاءً و تغيب صيفاً ، لحبسها بسدودٍ أنشأتها الشركات النفطية التي تستعمله للحقن بدلا من النفط المستخرج . اصبحت اجهد ذاكرتي لتذكر طيور النوارس و هي تحوم فوق سطح المياه لتبحث عن الاسماك و عن بقايا الطعام . فقد اختفت الطيور و الاسماك و تلوثت المياه بالمواد الكيمياوية و تسرب النفط و النفايات البلاستيكية و مبازل المزارع و المقذوفات البحرية الغاطسة و غير المنفلقة مما خلفته الحروب. لقد اختنق صديقي النهر الكبير و دخل في غيبوبة ما قبل الموت. ولعلهم سيقتلونه سريرياً بقطع اخر دفعات المياه عنه في الصيف القادم . ليصبح ارضاً يابسةً تطؤها الأقدام ، دون الحاجة لمعجزة السير على الماء !
لم يبقَ ممن يزورني في هذه الساحة الذي اعتدت الجلوس فيها منذ أيام شبابي الا اطفال القرية. الذين لا يكفون عن الطلب مني ان احكي لهم عن الأيام الخوالي حيث كان اجدادهم و آباؤهم يأتونني مصطحبين جداتهم و أمهاتهم ليستمعوا حكايات الزمن الجميل . حينما كانت سفينة السندباد لا تزال تشد الرحال من شط العرب مُبحِرَةً نحو المحيطات الخمس. لتعود بعد طول تجوال بتجارة رابحة و قصص المغامرات العجيبة ، فاستمد منها طاقة الحكي و اروي واروي حتى مطلع الفجر ! أما الان فلم يتبقَ سوى الحلم بالزمن الماضي او الكلام الخشبي عن تقنيات العالم الجديد و انجازات النظام الدولي الجديد بأسلحته و أوبئته ، بمشاهيره الاثرياء و نجماته الحسناوات؛ فارغي و فارغات الروح.
ماذا و لمن سوف احكي بعد الان ، اذن ؟
في الماضي كان الحكي متعة للروح . ينساب من شفاهي عبر الاذان الى القلوب . بعد ذلك اخذ الشباب يدونون ما احكيه في قراطيس و ينشرونه في الصحف والمجلات ويجمعونه في روايات مطبوعة توزع في الاكشاك و المكتبات. ويقيمون المسابقات و يقدمون الجوائز لتكريم الافضل منها . وبعد ان دخلت شبكة المعلومات كل بيت ، واستحدثوا الالواح الذكية التي يحملها الناس معهم اينما يذهبون ، اخذوا يقرؤون ما نُقل عني في المواقع والمدونات و ويتبادلون ملفاتي الصوتية والمرئية في مواقع تواصلهم الاجتماعية. كانت تقنيات جديدة لكنها مفيدة لمن لا يحب الاختلاط و يفضل العزلة ولم يعش لذة البهجة بالاجتماع في ليالي السمر و صباحات التأمل و الانشراح. اصبحت الملفات المنشورة تقتصر على بضعة دقائق و الغريدات على بضعة اسطر. فلا وقت للقراء لإهدار وقتهم الثمين في متابعتي الا قبل النوم بقليل. فقد اضحت الرسائل بكل انواعها تختص بالأعمال و التحيات و الاشغال و الطلبات و النكات و الدردشات السرية بين المعارف و الاصدقاء و الازواج و العشاق الواقعيين و الرقميين ، الذين يغيرون هوياتهم الرقمية (ID) بين الحين و الحين. لم يعد من يستمع لما نقول ، الا اذا عدنا بذاكرتهم لذكرى جميلة او مؤلمة عاشوها يوما ، او ردّدنا ما يطالبونه من حقوق سياسية او معيشية . لقد عَلِقَنا بسنارتيًّ الذكريات القديمة و السياسية اليومية . لقد انشرخت ارواحنا المحنطة كأسماكٍ مملحةٍ ، مدفونة تحت رمال الشاطئ ! فانقسمت بين الماضي الجميل و الحاضر المتشظي بالخوف و الجوع و الحرمان و كل اشكال المؤامرات السياسية و الازمات الاقتصادية. لم تعد ارواحنا تحوي الكثير مما تبوح به لشباب هذا الزمان سوى ان نكون مجرى تتنفس من خلاله أحلامهم و يقولون على السنتنا ما يرغبون في تحقيقه. فصرنا نطالب لهم بالوظائف والتعيين بدلا من ان نشجعهم على ان يعودوا ليزرعوا ارض ابائهم و اجدادهم الفلاحين ، اصحاب الارض التي تخلوا عنها للشركات النفطية. و التي اغفلت الحكومات العميقة الاهتمام بها ، حتى اصبحت ارضا بوراً عقيماً . اصبحنا نطالب بحصولهم على الشهادات الاكاديمية الفارغة ، بدلا من ان نزرع في عقل كل شاب و شابة حب قراءة الكتاب الورقي او الرقمي، ليزداد وعيهم بالمؤامرة التي وقعوا ضحيتها . كنا نطالب لهم بخدمات الكهرباء و الماء والطرق المبلطة بدلا من المطالبة ان يقوموا باستخدام موارد و طاقات بلدهم بأيديهم و تسخيرها في خدمتهم. كنا نطالب باستقدام الخبرات الاجنبية والايدي العاملة الرخيصة بدلا من ان نساعدهم في نفض غبار الكسل و رفض الاعتماد على خبرات غيرهم من الشعوب . كنا نطالب بمزيد من المستثمرين و البنوك الاجنبية التي تمتص فائض الارباح لجيبوهم بدلا من الاعتماد على استثمار أموال النفط التي كانت تُهدر كرواتب و امتيازات و بدلات سفر و طعام و غيرها من المصاريف. وباختصار كنا نطالب لهم بمزيد من السمك ولا نطالب لهم بحق تعليمهم الصيد.
في السنوات الاخيرة تبادلتُ الادوار مع بصير القرية . فصار هو من يحلم كثيرا ويستخدم اسلوب القص و الحكاية التي تهدف إلى منح الناس القدرة على الابصار. وصرت انا من اعتاد التصريح للفضائيات بضرورة تلبية طموحات المنتفضين من ابناء قرية البتران . فأصبحتُ اصف للشباب كل لون من الوان الحدائق، التي كنا نستمتع بخيراتها في الماضي. فنجعلهم يتحسرون عليها، كالذين وُلِدوا فاقدي نعمة البصر، فلم يتعرفوا على حمرة الورود او بياضها من قبل. فهم يتخيلون شيئا من وصفنا ، ولن يعرفوه ابداً. وستكون نهايتهم ان يُصابوا بعمى البصيرة ايضا.
هذه نهايتي يا اصدقائي الطيبين المدونين ، سعيد البصري وسعد الاعظمي و مسعود كاكا علي و حفيد تومان الشجاع و شاعرنا المبدع ذا القصديتين و بصير قريتنا الحكيم ..
ارجوكم و اتوسل اليكم ألّا تستسلموا مثل ما حدث معي ومع كل الحكائين في هذا الزمان الذين جُرِدوا من وظيفتهم كملهمينَ للشعب و تخلوا عن نارهم الموقظة للروح. و اصبحوا قناة يمر منها غزاة العولمة ؛ بسنابك خيلهم و إعلامهم وابواقهم الفضائية و الرقمية . و يدوس على ارواحهم السياسيون بطموحاتهم اللامتناهية و وعودهم المزيفة و مبادئهم المتلونة. و يصرخ في اذانهم الأرامل و الاطفال و فاقدو الاطراف و المنبوذون و المشرَّدون بكل ما فيهم من توحش لاسترداد حقوقهم المسلوبة. فيطالبونهم بالمزيد من الصراخ معهم علهم يسترجعون حقهم من الريح العاتية التي سلبتهم كلَّ شيء ، ومضت تضحك عليهم ، و تصرخ معهم في كل الفضاءات ، محرضة لهم بعدم الانصات الا لصراخهم المبحوح حتى موتهم !
هذه وصيتي لكم .. فانا صوتكم الجهوري الذي هو الصدى لجوابكم على سؤالي لكلٍ منكم: اليوم , كيف تتذكر ذلك العالم المجنون ؟
فتحدثوا بكل ما تريدون ولا تخشَوهم ، فهم لن يستطيعوا ان يسكتونا حتى لو قاموا بقطع السنتنا وتمزيق كتبنا وحذف مدوناتنا. و قريباً ستكون نهايتي ، سأكون اول ناشر لكل ما تريدون قوله، لانهم لن يستطيعوا ان يمنعوا الله من مساعدتنا على توارث وصيتنا للقادمين بعدنا من المدونين بعدم الصمت و الاستسلام لرغبتهم ان يحكموا الارض و اجسادنا و ارواحنا الى الابد. فالأرواح التي ستسكن الابد لن تكون ملكهم. بل هي ملك الله ، الذي سُيورث الارض لعباده الصالحين ، الذين عاشوا وماتوا مستضعفين فيها.
استودعكم الله هذه اخر كلماتي في الدنيا. فغدا سأجلس في ساحة القرية تحت صفصافتي التي يبست. سأنتظرهم .. ، فليأتوا لكي يأخذوا روحي المعذبة الى فردوسها الابدي .
# وصية حفيد تومان
حين تحلق النسور في اعالي السماء ، فأنها تراقب الطرائد الصغيرة الباحثة عن الطعام او الماء او الملجأ الذي يقيها الحر و البرد ، غافلة عن العين التي ترصدها من الاعلى. تلك هي حالتنا مع السلطة التي استمرت بمراقبتي ثلاثين سنة قضيتها في النضال السياسي و الاجتماعي.
حينما كنت صغيرا ارقب جدي وهو يمازح الناس الطيبين ويفاجئهم بنكاته و مقالبه فيقابلونه بالأعجاب و التصفيق وما لذ وطاب من الطعام و الشراب الحلال. لم يكن يخطر ببالي ان الحياة و الناس لهم وجه اخر من القسوة و الغدر و اللؤم من بني جلدتهم. و لم اظن وقتها ان لون ذلك الجلد يبدو مهماً لأغلب الناس اكثر من الروح التي تسكن تحته ! هكذا كبرت في هذه المدينة التي جسدت الحياة بقبحها و حسنها ، ببراءتها و قسوتها .
حينما فاز براك أوباما بالانتخابات الأمريكية ، كنت جالسا في المقهى الخاص بالسمر في قريتنا الصغيرة . اخذنا نوزع الحلويات و نتبادل التهاني ، فاطلق احد الجالسين على سيارتي الحديثة اسم ( أوباما ) تيمناً بذلك اليوم. فشاع هذا الاسم في البلد على كل السيارات من ذلك النوع . لكنَّ شيطاناً صغيراً وقف على طاولة في منتصف المقهى و قال بأعلى صوته : سيكون حفيد تومان هو أوباما قرية البتران ! وهو مرشحنا في الانتخابات القادمة يا اخوان ! اخذت الجميع موجة من الضحك والتصفيق و مازحني البعض باني اكثر سمنة من أوباما و انّ عليَّ ترشيق جسمي. بينما قال لي الاصدقاء الاخرون ، باني اكثر شبها بالملاكم (محمد علي كلاي ) منه بالسيد أوباما. و اني سأكون مقاتلاً شرساً ضد الفساد و المفسدين واطلقوا عليّ لقب: نصير المضطهدين. حين رجعت الى البيت ، ليلتها راودتني الكثير من أحلام اليقظة والمنام ، حتى ايقظتني زوجتي عند الظهيرة قائلة :
– ( انه موعد تسديد اقساط سيارتك ؛ أوباما ! ).
في السنوات الثلاثين التالية خضت مرتين انتخابات مجلس المحافظة و ثلاث مرات انتخابات مجلس النواب كمرشح مستقل في قوائم انتخابية مختلفة . كنت المرشح الوحيد لقرية البتران. فكان سكان القرية يُقبلون على التصويت مصطحبين عوائلهم من النساء و كبار السن على كراسيهم . المعوقون يمشون عدة كيلومترات على عكازاتهم ، بعد ان قامت الدولة بمنع تحرك العجلات لدواعي أمنية . كان الجميع متشوقاً ليوم اعلان النتائج، لكي يصبح ابنهم : (أوباما قرية البتران) . فهو الذي سيقوم بمساعدتهم على توفير الادوية و مستلزمات السلامة للمعاقين و توفير الغداء و الملابس لمن فقدوا معيلهم من اليتامى و الأرامل. و يساعدهم في استعادة مزارعهم التي سُلِبتْ منهم و ضُمَّت الى مساحات الحقول النفطية الشاسعة. و يجبر الدولة على الأنفاق على تخليص اراضي القرية من الالغام كما تقوم بذلك في المناطق النفطية. و يساعدهم في بناء مدارس لأطفال القرية بدلا من مدارسهم الطينية البائسة .و تخصيص ملاعب لكرة القدم بدلا من ملاعبهم قرب حقول الالغام ، حيث يستعمل اطفالهم مخلفات القنابل و الهاونات لتعيين موقعي هدفي الملعب !
لم انجح في كل الانتخابات . بسبب التزوير و المساومات التي جرت قبل و بعد فتح الصناديق . كان السياسيون يزورونني في مكتبي القريب من المقهى و يطلبون مني ان اتنازل لهم عن الاصوات الانتخابية التي حصلت عليها ، لقاء مبالغ مالية كبيرة . وذلك بان انضم الى قوائمهم الانتخابية دون ان اكون من الفائزين. فتذهب اصواتي الى المرشحين الاخرين في القائمة . وكنت ارفض في كل مرة قائلا : ( هذه الأموال ستكون سوداء بامتياز ان قبلتها ، فهي مغموسة بدماء اخواني البتران، المسودة من استنشاق السموم و الدخان !).
فشلنا في كل الانتخابات ، فهم من كان يضع قوانين اللعبة ، ومن يضع القوانين فهو بالتأكيد من يفوز في النهاية . لم يكن هناك مراقبون دوليُّون لفرز الاصوات او معرفة كم عدد الصناديق التي سيجري تبديلها . وكم من اصوات الشعب السياسي التي ستاتي من خارج البلاد لتضاف الى رصيدهم لضمان الفوز. كلما حشدنا من البتران كانوا هم الاكثر عددا. كان البتران بالملايين ، لكنهم كانوا يفوزون دوما ! لم تعد الألاعيب السياسية سراً ، كانت حديث الجميع , حتى الأميُّون من البتران يعرف ما كان يجري ويدور في الكواليس السياسية. فقد كان التخندق الطائفي والقومي هو ما يبقيهم على راس السلطة. فما أنْ تخف حدة هذا الاحتراب المصطنع ، حتى ينخرطوا في لعبة تبديل الجالسين على الكراسي. فتثور معارك حصص المكونات و الحصول على الامتيازات. فكانوا يقومون بفضح بعضهم البعص الاخر للتسقيط السياسي او الابتزاز المالي . كان كل شيء مباحاً و مقبولاً بينهم ، لكن ما إنْ يقوم بفضحهم احد البتران ، حتى يُهدِّدوه جميعهم بانه قد تعدى خطًّاً احمرَ؛ لا ينبغي عبوره. و لكني قد عبرته بالفعل ! و دخلت اللعبة بشروط البتران . فقمنا بقطع كل الطرق المؤدية للحقول النفطية و الموانئ البحرية. فانقطع تصدير النفط لأيام و انقطعت وصول المواد والتجهيزات الى المواقع النفطية و التجمعات السكانية التي قاموا ببنائها للشعب السياسي الذي احاطوا انفسهم به . دخلت قوات أمنهم باشتباكات عنيفة معنا ، و قتلوا العديد من الشباب الذين لم يكن لهم من سلاح في المقاومة سوى صدورهم العارية ، التي تلقت طلقات بنادق الصيد احيانا و القنابل الدخانية و المسيلة للدموع في احيان اخرى و طلقات الاسلحة الكاتمة للصوت كحلول اخيرة ! أنشأنا خطاً اولاً للصد و خطاً آخرَ من خيامنا ، التي كانت معرضة في اي لحظة للهدم من قبل قواتهم العسكرية التي تهاجمنا من الأمام منطلقة من مواقعها داخل مناطقهم النفطية. فيما تقوم قوات اخرى مدنية بمهاجمتنا من خلف الخيام . فلا يُعرف أهُمْ من عناصر الاحزاب السياسية المندسين بيننا أم هم من السكان المهاجرين الجدد لقرية البتران. التي توسعت بعد ان اصبحت المدينة بأحيائها القديمة جزءاً منها . وبعد ان هاجر الكثير من سكان المدن والقرى الذين لم يعد مرغوباً بوجودهم داخل المجمعات السكنية النفطية. لكونهم غير مسجلين ضمن قيود نظام المعلومات الكبير (Big Data) . فاصبحوا بلا عمل و لا تخصيصات صحية او غذائية او مالية . و اضحوا خارج حسابات الحكومة ، فلم يعد لهم وجود ، اذ هم غير مسموح لهم بالتصويت لانهم بدون شرائح انتخابية رقمية. فهم لا يُعَدّون من الشعب السياسي ، بل اصبحوا من الشعب غير المرغوب بوجوده ، فأما ان يسافروا خارج البلاد كمهاجرين او لاجئين، وأما ان ينضمُّوا الى المناطق المحصورة بين جمهوريات النفط الثلاثة. مناطق النفي و الفوضى ، التي تعمل كسلة للنفايات البشرية. حيث تنشط فيها الفيروسات القاتلة وعصابات ومافيات القتل و تجارة الرقيق و الاعضاء البشرية و الاسلحة و المخدرات.
لم يبقَ أمامنا سوى ان نقوم بانتفاضة اخيرة حاسمة فأما هم وأما هذه الملايين التي تعيش تحت خط الصفر . كما وصفهم استاذنا الحكيم بصير القرية ، الذي زارني في خيمتي في الليلة الماضية قبل ان اسجل هذه الوصية. كان منهك القوى في الثمانين من العمر، و قد استند على عكازته و على شخصين معه ، عرفني عليهما صديقي القديم سعيد البصري ، قائلا : ( اعرفك بصديقيّ الذين انضمّا الينا ؛ سعد الاعظمي و مسعود كاكا علي ، الهاربين من فساد المدن الظالمة ). حييتهم جميعاً ، ثم جلسنا على الارض ، فيما جلس استاذنا بصير القرية على كرسي من جريد النخل ، فلم يعد قادراً على ثني ركبته .
سألني بصير القرية : ( هل ستكون راضيا اذا سقط اخوانك غداً ؛ مضرجين بدمائهم ؛ بسلاح عدوٍّ لا يفرق بين كبيرٍ او صغيرٍ ، بين رجلٍ او إمرأةٍ )
اجبته : ( لا مفر من ذلك ، فأما ان نموت بسلاحهم وأما ان نموت من المرض و الجوع ). قال مسعود كاكا علي : ( انا عشت معهم سنينَ طويلة و اعرف كيف يفكرون ، هم لا يهتمون بكم ، لانهم يفكرون بإخضاعكم بالترويع و الصدمة ، وكلما ازددتم عنفاً ، سيزدادون رغبةً في اخضاعكم بمزيد من الترويع و العنف . انكم تقاتلونهم بسلاحهم ، وهذا يجعلكم مهزومين قبل ان تبدأ المواجهة لان ما يملكونه من تقنية و اسلحة يفوق بكثير ما لديكم ؛ اقصد ما لدينا ؛ إذ اني الآن واحدٌ منكم ؛ و باختصار هذا انتحار جماعي مُرَحَّبٌ به من قِبَلِهم ، فلن يكلفهم سوى تضحية صغيرة ببعض الاسلحة و المعدات و بعضٍ من ارواح حماياتهم الأمنيين ، الذين يسهلُ استبدالهم بآخرين.)
اجبته : ( هناك سلاح سري هو حبنا لوطننا وايماننا بمبادئنا الانسانية ، من يموت منا فهو شهيد ومن يموت منهم فمصيره الى النار .)
ساد الخيمة صمتٌ ثقيل لبضع دقائق ، قطعه صوت بصير القرية المتحشرج مخاطبا ايايّ :
( يا بني ، كم من الرجال و الفتيان الذين تدفع بهم للموت لديه يقين بما تقول ؟ كم شخصاً منهم يصلي لله و يعبده بصدق ؟ كم شخصا منهم يعرف ان ما تقولون به هو انتزاع للحق اكثر مما هو انتزاع لفرصة الحصول على لقمة للعيش او بيت للسكن او دواء ؟ و اذا ما عرضوا على انصارك ان ينضموا اليهم و يصبحوا من حراسهم الأمنيين مقابل استلأم راتبٍ شهري و السكن في واحدة من شقق مجمعاتهم السكنية المرهفة ، فكم شخصا منهم سيكون مستعدا لأطلاق النار على اخوانه المنتفضين ؟ هل تعرف ان ارهابيي داعش قد استخدموا نفس الكلمات حين دفعوا بآلاف الشبان و الاطفال للموت؟ حين لم يعرف أولئك المُضحَّى بهم من معنى للجنّة او للشهادة سوى القتل الوحشي للبشر. و غفلوا ان الشهداء لم يصعدوا الى سماء الشهادة بمجرد القتال ، بل بما عرفوه من معانٍ انسانية وقيم اخلاقية و سمو نحو التضحية بالنفس من اجل تلك المبادئ ، وليس من اجل مطالب دنيوية فانية ).
كنت اريد ان اجيبه بان الغالبية العظمى لا يعرفون ذلك لانهم قد تم تجهيلهم لعشرات السنين ، و تم تغييب عقلهم الذي اقتصر على البحث عن وسائل العيش. لكنّ بصير القرية سبقني بالتعبير عمّا اريده ، قائلا :
( اعرف انك ستقول انهم لازالوا شبابا لم يُعطوا فرصة للتعلم او التأمل او التبصر بحقائق الأمور . لم يعرفوا من الدنيا غير ما لقنوهم من اكاذيب ( وطنية السياسيين ) الزائفة ، و رغبات (الدنيويين) في المتع الزائلة ، الذين لا يعون ان الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر. قل لي اذن ، كيف سيدخل هؤلاء الشباب جنة الله بجهلهم و ضياعهم هذا ؟! هل لديك صك الغفران لذنبوهم التي اكتسبوها بعد وقوعهم في الشباك العنكبوتية التي التفَّتْ حول عقولهم و مخيلتهم بتخطيط مسبق من حكام برج بابل ؟! )
ثم التفت بصير القرية نحو الاصدقاء الآخرين الجالسين أمامي ، قائلا : ( اعلم انكم خضتم تجارب مؤلمة و عانيتم كثيرا و كنتم ضحيةً لهذه المؤامرة ، التي جعلتكم في اوقات كثيرة ادوات للتنفيذ عن طريق افسادكم. ليتمكنوا من قتل و تجويع وتشريد اخوانكم في هذه القرية و غيرها من القرى . اعلم ان مكتبة بابل كانت في صراع مرير و طويل ضد برج بابل . فما إنْ تُبنَى لبنة من برج بابل حتى تسقط مثلها من مكتبتها العريقة . وما إنْ يصعد البرج في بنيانه المتكبر والمغرور و المتحدي لعظمة الله حتى تنزلق المكتبة في متاهة سرية يتيه فيها المكتبيون الباحثون عن الخلاص ، حتى انهم قد ينسون هدفهم من الوجود . فذلك الصراع قد ابتدأ منذ ان قتل قابيل اخاه هابيل عند شجرة آدم ؛ التي ارتوت بالدماء ؛ فتوقفت عن النمو و اصابها العقم و اضحت بلا ثمار. و انتم تعرفون باقي القصة ، فقد غاب بعدها الانبياء و العلماء و المكتبيون في عزلتهم ووحدتهم . فكلما ارادوا تعليم الناس و تقريب اذهانهم من هدف وجودهم ؛ وهو الوصول الى الجنة ؛ خرج احفاد قابيل ليصرخوا صرخة الشيطان باسم الدين او القومية او الحرية و حقوق الانسان . فهم ينساقون ضمن مخطط عالمي يسيِّرهم كأحجار في رقعة شطرنج شيطانية. فاشعلوا حروبهم المستمرة التي لن تنتهي حتى يبعث الله من يقتل الشيطان نفسه، و تسقط الى الابد دول الدجالين من اخوان قابيل ! )
قال سعد : ( يا معلمنا الكبير ، يسرني ان اكون من تلاميذكم ، رغم اني لم التقِ بك قبل اليوم . لكني فخورٌ بانك قد لخَّصتَ كل ما يجول في خاطري ، غير أنّ ثمَّةَ شيئاً احب ان اضيفه. لعل صديقنا حفيد تومان يُغيِّر رأيه قبل ان تشتعل نيران حرب يأجوج و مأجوج . فأرجو ان تستمع لما اقوله و تنظر اليه بمنظار واقعي وليس من باب المجاز او الرمز .. )
وقف سعد محتضناً كرسي بصير القرية من الخلف ، وقال : ( لقد انخرطت في التنظيمات الارهابية السرية ولم ينقذني منهم الا الله. فبعد ان هُزموا في الموصل ، هربت منهم. كنت مُطارَداً من باقي فلول الارهابيين خشية ان اكشف اسرارهم و كنت متخفيا من السلطة الحاكمة التي اعتبرتني ارهابيا من الذين لم يتعاونوا بعد التحرير معهم . قضيت أياما طويلة في مناطق مهجورة ليس لدي من انيس سوى اخي سعيد ، الذي كان يزورني كل يوم جمعة. فيزودني بالطعام والشراب ويقضي معي بعض الوقت ، نتصفح سوية في كتاب قديم لديه اسمه كتاب المحو . أما باقي الوقت فأقضيه في التأمل و استذكار تاريخ حياتي التي قضيتها في القتال لتحرير وهْمٍ ظننته هو الوطن ! كنت احسبه شيئاً ماديّاً من تراب و اجواء و مياه , فهكذا كانوا يُعرِّفون لنا الوطن : ( قطعة من الارض لها جيش و علم ، ولها سلطة تحكم الساكنين فيها من الاباء و الابناء ). قُل لي بربك اين روحك من هذا التعريف ؟ ان روحك هي الوطن الذي عليك الدفاع عنه. خوفَ ان يغزوه الدجال و اعوانه ويزرعوا فيه الاكاذيب و ويمزقوا علمه و يسقطوا حكومته ويستعمروا اهله الذين هم فؤادك و عقلك ونفسك و آخرهم جسدك. وعندها سوف تكون عبدا مستعمرا للدجال و اعوانه من الشركات والحكومات و الاحزاب الذين استحوذت عليهم فكرة ان يأجوج ومأجوج سيخرجون هنا في بلاد الرافدين ! فيتوجب عليهم ان يسيطروا على هذه الارض بكل خيراتها و يبقوا مسيطرين على انهارها و نفطها حتى يرجع المسيح الدجال و يفني يأجوج ومأجوج على حد زعمهم الزائف. فهم يعلمون انهم لا وجود لهم بالأصل هنا ، لكنهم سوف يقومون بخلقهم حتى يبرروا سبباً لوجودهم . ونحن لجهلنا بخطتهم ، نُسهِّل لهم المهمة ، بمجابهتنا لعنفهم المبتكر بعنف آخر يبدو مشروعاً و بريئاً . لكنهم سوف يجعلونه شيطانياً و عديم الفائدة ، لأننا نقاتلهم بذات الاسلحة التي برعوا فيها ؛ الاسلحة القديمة : التجهيل و النبذ و العنف ! )
خرجوا من الخيمة ، ودعتهم ، عانقوني كأنهم ، يودعوني الوداع الاخير. عدت للجلوس في الخيمة اطرقت الى الارض طويلا . اخرجت هاتفي النقال سجلت رسالة صوتية قلت في بدايتها : (هذه وصيتي ) ، ثم ذكرت كل ما حدث وما تكلم به المعلم و الاصدقاء و بعثتها كملف صوتي الى كل اصدقائي. كنت قد عزمت ان اذهب الى المنتفضين لأخبرهم ان يتفرقوا ويذهبوا الى بيوتهم و مدراسهم ، فالعيش الكريم و الحرية في الوطن موجودة بالفطرة داخل انفسنا. وكل ما علينا هو اكتشاف أنفسنا الانسانية دون ان نهتم للحكومات. فهي ليست وسيلتنا لحب وطننا. فليس الوصول الى السلطة ، مهما كانت النوايا طيبة و جميلة ، الا احدى طرق الدجال في جرنا للدخول الى متاهة لعبته القديمة !
سأركب سيارتي ( أوباما ) التي غدت قديمة و تراثية وذلك بعد اكثر من ثلاثين سنة من شرائها و اذهب للمنتفضين لأعلن لهم اني سأعود معهم الى بيوت قريتنا لبناء وطننا الحقيقي. سأعود مشيا على الأقدام او العكازات او كراسي المعاقين. سأتخلى عن سيارتي ، فوقودها هو ما جعلنا مطمعا للحكومات المستعمرة ، و حبنا لامتلاكها هو ما خدعنا عن هدف ارواحنا ، و اضاع اجمل سنوات العمر الثمينة !
Your email address will not be published. Required fields are marked *
Comment *
Name *
Email *
Website
Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.
Post Comment
حينما تسقط الاحزاب و الانظمة السياسية و يبتدأ حكم الشعب المنبوذ من التكنولوجية الحديثة فان الفطرة الانسانية هي من تصنع المدنية و الحضارة ابتدأ من درجة الصفر
يمكنك اغلاق النافذة و متابعة القراءة او يمكنك الانتقال الى مدونة جمهورية البتران
كيف تتذكر ذلك العالم المجنون ؟ هي مدونة لـ حكواتي القرية
يمكنك اغلاق النافذة و متابعة القراءة او يمكنك الانتقال الى مدونة كيف تتذكر ذلك العالم المجنون , اليوم ؟
مزقوا جسده بثلاثة عشر اطلاقه ، روحه استمرت بحكاية قصص عن الف ليلة و ليلة من التسامح و المحبة لكنهم لم يستمعوا سوى لصدى طلقات الاغتيال
يمكنك اغلاق النافذة و متابعة القراءة
أعجبتُ بشخصيتين، اولهما جدي تومان الشهير ، و ثانيهما براك أوباما ، اول رئيس أمريكي اسمر البشرة
معلم القرية الروحي ، اول فتى في القرية قرا كتاب المحو ، فمحت حروفه بصر عينية ، فاصبح بصيرا بدروب القرية المُلغمة
يمكنك اغلاق النافذة و متابعة القراءة او يمكنك الانتقال الى مدونة قرية جرف الملح / قرية البتران / درجة الصفر
حينما تقوم الحكومات باستعباد الشعب بتوزيع الاعمال حسب الولاء و ليس حسب الكفاءة ، سيكون الشعب سياسيا في ولائه للحكومات وليس للوطن او لنفسه
حيث تتحول الحياة الى رغبة قاسية مقتصرة على البقاء ليوم اخر من أيام الدنيا ، دون طموح لحياة احسن او لمعنى يلخص تفاصيل حياتنا المبعثرة التي تظهرها شاشات الفضائيات. كما لو كنا اشباحاً في مسرحية عبثية اسمها لقمة العيش
يمكنك اغلاق النافذة و متابعة القراءة او يمكنك الانتقال الى مدونة درجة الصفر
ترك قريته محروق الجسد ، عاد لها مجروح الروح ، اراد ان يلتقي بمعلمه و رفاق صباه فلم يجد سوى ارواح مزقتها الحروب و تركتها للضياع بين مصبات الانهار الجافة و غابات النخيل المحترقة
يمكنك اغلاق النافذة و متابعة القراءة او يمكنك الانتقال الى مدونات سعيد البصري
تعارف في شاحنة اعدام
شاطئ الاحلام
قرية جرف الملح / قرية البتران / تحت خط الصفر
موعدنا الجسر / جسر الائمة / فاجعة الجسر
ودع البحر في شواطئ الكويت ، ودع رمال حفر الباطن ، ودع شواطئ دجلة في الاعظمية ، نفذت كل كلماته و كل رسائله ، اسقطته المؤامرات ، نهض من جديد ، جاء يمشي بكل جروحه ليكشف لنا عن معنى الانسانية الحقيقي
يمكنك اغلاق النافذة و متابعة القراءة او يمكنك الانتقال الى مدونات سعد الاعظمي
قمر بوجهين
صناعة الدجال
صناعة المؤامرة
وُلد قبل اعدام أمه بلحظات ليكون شاهداُ على اغتيال وطنه لأعوام طويله
يمكنك اغلاق النافذة و متابعة القراءة او يمكنك الانتقال الى مدونات مسعود كاكا علي
إعدام أُم
رسائل الرمال
كوابيس كيرونا
العقل المُحتل
أمنية مستحيلة
كتاب روحي / كتاب الاحتمالات اللانهائية / لا يشبه كتاب الرمل لبورخس فهو ينبع من حكمة و هدف و ليس من عبثية و فوضى
يمكنك اغلاق النافذة و متابعة القراءة او يمكنك الانتقال الى صفحة كتاب المحو