الابحار الرابع – أمنية مستحيلة

مدونة مسعود كاكا علي / 30 ، تشرين الاول ، 2019 / اربيل

بعد فوز شركتنا بأحد العقود النفطية ذات الارباح الوفيرة في جنوب العراق ، حصلنا انا ولورا على مكافأةٍ ماليةٍ كبيرةٍ. فعدنا الى لندن لنحتفل مع اصدقائنا بزواج توجنا به خطوبة غير معلنة استطالت لعشر سنوات. بسب انشغالنا بالأسفار بين مدن العراق و أوربا و أمريكا من اجل اقناع هذا الطرف او ذاك ، لتسهيل عقد الصفقات مع الحكومة بالترغيب او الترهيب او دفع مبالغ تندرج تحت مسمى ، (هدايا تسهيلات تجارية) !

عُقد قراننا في مسجد اولاً ، ثم في كنيسة ، تلبية لرغبة الطرفين . دعونا معارفنا من مختلف الشركات التي عملنا لديها او ربطتنا بأفرادها علاقات تعاون او تنافس ، فلم يشكل ذلك فرقاً كبيراً. اذ لم يكن في عالمنا اصدقاء او اعداء ، بل فرص للربح المستقبلي . فمنافس اليوم قد يصبح شريك الغد. هكذا كانت لورا تكرر عليّ: ( لا يوجد عداء ابدي ، وفي ذات الوقت لا تثق بأحد كثيراً. شك بالجميع ، حتى بنفسك !). عانقتني هامسةً في اذني: (بتسم قليلا ، لأجل الصور و لأجل طبيبك ، جاء ليراك سعيداً!). التفتُ فرأيت Dr. Goody. صافحني وقال لي: (عمل جيد  يا صديقي القديم). ثم قبل لورا على خدها ، وتمنى لها سعادة ابدية. وبقي يراقبني من مكانه ، عند بار الحفلة. حسب علمي، لم يكن ضمن قائمة المدعوين!

بعد هزيمة داعش و هروبهم من الموصل. ابتدأ سباق جديد للحصول على مشاريع اعادة اعمار المناطق المنكوبة. قالت لورا : (افضل وقت لكسب المال حين تكون الدماء لاتزال رطبة على الارض ، هيا لنرجع  الى ارض بابل و أشور). حين صعدنا الطائرة ، اخذت تقص عليّ قصصاً عجيبةٍ عن الكنوز و الثروات التي تحويها ارض بلادي . كانت تحفظ تاريخ بلاد ما بين النهرين افضل مني. ابدتْ غضبها حين  قرات خبر تفجير الدواعش قبر النبي يونان (يونس ). وسألتني ماهي المناطق الاثرية التي زرتها في العراق ؟ كنت احدثها بأني قضيت طفولتي وصباي في منطقة صحراوية نائية اسمها نقرة السلمان ، قرب سجن كبير للمعتقلين السياسيين. و بعدها انخرطت في الجيش ثم هربت منها  الى كردستان . ثم هربت الى خارج العراق. فلم يتسنَ لي الوقت لاكتشف بلادي : (اعذريني لن استطيع ان اخبركِ بأكثر مما موجود على شبكة المعلومات وهو ما تعرفينه و اكثر). خلال الوقت المتبقي للوصول الى مطار اربيل استعرضت لورا زياراتها لمواقع العراق الاثرية في إريدو و أُور، حين اتخذتها القوات الأمريكية كثكنة عسكرية لها لمدة ست سنوات ، قبل ان تسلمها للقوات العراقية في 2009 ! اجبتها : ( وصلنا ، اهلا بكِ في ارض الحضارات المنهوبة !) رمقتني بنظرة قاسية . وسبقتني للنزول من باب الطائرة.

(( كنت يائسا من تحسن الاوضاع المعيشية للناس البسطاء. فكل ما حدث كان لأجل تعظيم ارباح الشركات و البنوك ، لم يُحسن حياة البسطاء ابداً. ما هو الهدف من كل هذه الفوضى التي اودت بحياة الاف و شردت الملايين و زرعت الرعب في قلوب النساء و الاطفال ….))

اغلقت الحاسوب بسرعة ، حين فتحت لورا باب حمأم شقتنا في الفندق . قالت لي :

– (هيا لنذهب الجميع بانتظارنا ، .. ما الذي تكتبه ؟ )

– (لا شيء مهم ..! ربما زيارتنا الى مخيمات اللاجئين و توزيع بعض المساعدات سوف يشجعهم على التعاون معنا ، ما رايك ِ ؟)

– (ليست فكرة سيئة .اجلب الكاميرا لنصور بعض النساء والاطفال الفرحين بهدايانا.)

 

اثناء مرور سياراتنا المصفحة بالطرق المحاذية لمخيمات اللاجئين  كان اطفال المخيمات يحاولون سد الطريق بأجسادهم النحيلة المحروقة بالشمس . يتعلقون بالسيارات و يطلبون اي شيءٍ من المال او الطعام. كانوا بأعمار تتراوح من السادسة و حتى الرابعة عشرة يركضون لاهثين خلف السيارات كأنهم دمى( الزومبي) ، التي تظهر في افلأم الرعب و الاثارة. كنا نصمت داخل سياراتنا المكيفة ، محاولين ان لا نتطلع في عيونهم المتهمة لنا بعدم الانسانية و التجارة بدم الابرياء من متضرري الحروب و العمالة للمحتلين الاجانب ، وكل ما في الارض من تهم. وربما لم يكونوا يفكرون بايٍّ من ذلك. ربما كانت كل رغبتهم ان نوفر لهم بيتاً نظيفاً، دافئاً في الشتاء ، مبرّداً في الصيف ،ماءً صالحاً للشرب و طعاماً ودواءً صحّياً غير منتهي الصلاحية كالطعام والدواء الذي كان يصلهم من المنظمات الانسانية المتبرعة. فلم يصل لهم الا بعد اشهر من الانتظار لأخذ موافقات الجهات الأمنية و الادارية والصحية و البيئية المسؤولة عن أمن وصحة ورفاهية ساكني مخيمات اللاجئين !

اخذنا بتوزيع البطانيات والملابس و الهدايا التذكارية المزينة بشعار شركتنا . فاصطف طابور من النساء و الاطفال ، و قليل من الرجال المسنّين الذين يبدو انهم وقفوا في الطابور لعدم وجود اطفال لديهم ، او لقتل الوقت المسكون بالضجر و التحديق بالغبار المتطاير و ابعاد ذباب الذكريات الاليمة !

 

اخذت لورا بالتقاط الصور لكل من يستلم هدية مني . كان طابوراً طويلاً من البشر البائسين الذين ارتسمت على وجوههم غيوم من الهموم والاحزان. لن تستطيع ان تنظر في عيني احدهم ابدا خشية ان تنهار معتذرا اليه ، قبل ان يقول لنا : شكراً لأنكم تذكرتم اننا نشارككم العيش في ذات الكوكب وننتمي لنفس الجنس البشري !    

كان القدر قاسيا عليّ في ذلك اليوم اكثر مما رايته في كل حياتي الماضية . بل ربما ان مشيئة الله ارادتني ان استعيد روحي الضائعة في تلك اللحظة التي لمحتها تقف في الطابور. مقتربة مني خطوة ، فخطوة . كنت اريدها ان تصل الي بسرعة ، فأخذت بتوزيع الهدايا سريعا . لم اكن اتريث لحظات للتصوير مع المستلمين ، كما كانت تطلب مني لورا مراراً. و احيانا اصبحُ شارد الذهن حين أحدق اليها ، فأنسى ان كنت قد اعطيت قطعة او قطعتين للمستلم او المستلمة . فقد كنت مشغولا بالتحديق فيها ، كانت  تلف على راسها منديلاً بلون البحر …، شعرها الكستنائي يغطي جزءاً من عينيها  اللتين بلون اخضرار الاشجار الذابلة ….، وجنتاها الورديتا  تعلوهما كدماتٌ سوداء ! نعم انها أمنيتي المفقودة !  كيف انساها حتى لو اخبروني انهم قتلوها منذ سنين طويلة. فلم اكن لأخطئ معرفتها من بين الاف النساء. حتى لو كان ما اراه روحا او شبحا لها ، فلن يشبه أيّاً من اشباح النساء. لم انسَ وجهها فقد كانت تزورني كل ليلة ، ولعلها قد خرجت الان من احدى كوابيسي. هل استطيع ان اتجرأ و المسها ، لأتأكد انها ليست وهما من أوهام مناماتي ؟!

سلمتها هدايا شركتنا. وودت لو انها قد تعرفت عليّ و عانقتني بشدة بعد كل تلك السنين من الغربة و الحرمان. لكن نظرتها كانت معلقة في السراب المتراقص والغيوم المتناثرة في خلفية المشهد البعيد خلفي. اخذت التبرعات و مضت فيما كان طفلان بعمر الخامسة او السادسة يمسكان بثوبها و يتبعانها . ربما لم تعرفني ببدلتي الرسمية. ربما اصبحتُ بديناً و اسمر قليلا . وربما ان صلعتي قد جعلتني ابدو اكبر عمراً . كذلك هي ، كأنما كبرت خمسين سنة ، وليس عشرين سنة مضت مذ رايتها اخر مرة . مشيت خلفها حتى وصلت الى خيمتها . حاولت ان ادخل الخيمة بعدها ، لكني ترددت ، ناديتها بصوت خافت : ( أمنية .. أمنية ،..)

لم يجبني احد . اردت الرحيل ، لكنها خرجت متمايلة من الخيمة كمهرة رشيقة ، سمعت صوت خَيَّالِها و حبيبها القديم.

– (مسعود .. اشنو رايد ، ما اطيقو احكي معك ؟)

– ( اشلونكي حبيبتي؟ عرفتيني .. ؟)

– عرفتك منذ زمن طويل ؟ ماذا تريد ؟

– اريدكِ !

– ……….

– تعرفين اني احببتك ولم انسك يوما ، انا ..

– لا تكمل ، فانا لست من تركتها ، انا أمرأة مغتصبة ولدت توأمين من اغتصابات لرجال شتى. اغتصبوني حتى تمنيت الموت. ماذا تفعل بامرأة مثلي ؟! انا ….،انا

و سقطت على الارض ، وهي تبكي مغطية وجهها بكفيها ، التي بَدَت عليهما اثار حروق وندوب محمرة ذكرتني بخريطة الحناء التي كانت ترسمها ؛ في شبابها ؛ على راحتي كفيها.

ارجوكِ لا تكملي اعرف كل ما حصل. لا ذنب لأي منكن ، انتنَّ ضحايا. وانا وغيري من كنا الجلادين ، لم آتِ لكي احكم عليكِ بل لأطلب الغفران منكِ.

وما الفائدة ؟ سواء طلبت مني الغفران أم حكمتِ علي باني لا استحق الحياة ، فانا لم اعد انا ! … انا متُّ منذ ان تركتِني و هاجرتِ !

 

كانت لورا تبحث عني ، نادتني من بعيد ، كان صوت الريح عاليا ، فلم اسمعها . اقتربت مني. فقالت لي : (مع من تتكلم ؟ ) اختبأتْ أمنية في خيمتها ، وحسنا فعلتْ.

اشرت الى طفلي أمنية ، والتفتُّ الى لورا : ( الا تشعرين بالحزن لمستقبل هذين ؟)

مشت سريعا وقالت : ( لنغادر ، الافضل ان نصل الى اربيل قبل حلول الظلام ).  

ركبنا في سياراتنا المصفحة ، التي انطلقت مسرعة ، لتثير الغبار خلفها . بقيت انظر الى خيمتها … رايتها واقفة محدقة في قرص الشمس المحمر وهو يغوص في الافق المغبر الداكن. كنت مرهقا فنمت في طريق العودة. وحين وصلنا ، ايقظتني لورا ، قالت لي : ( ما بك ، كنت تهذي اثناء نومك ؟) اجبتها : ( ربما انا متعب قليلا ).

في اليوم التالي طلبت من لورا ان نذهب الى نفس معسكر اللاجئين لأني اريد التكلم مع المسؤولين عن ادارته حول أمكانية افتتاح مدرسة لتعليم الاطفال هناك. قالت لي لورا مستغربة : ( يجب ان تحصل على موافقة شركتنا قبل الحديث معهم ؟ )

– (سيوافقون لاحقا. وحتى لو لم تأتِ الموافقة ، سأجد من يمول بناء مدرسة صغيرة . انها مجرد مشروع صغير . انهم يستحقون بعض التضحية ، ما رايكِ ؟ )

– (هذا الأمر لا يتعلق بالمال . انه يرتبط باستراتيجيات عملنا . متى ستفهم ؟!)

– (ارجوكِ ، فقط  لنتكلم معهم، لن نوقع عقداً .)

– (حسنا . هذه المرة فقط ! ).

 

حين وصلنا الى معسكر اللاجئين . ذهبت الى خيمة أمنية . وجدت عائلة اخرى تسكنها . سالتهم عنها ، فقالوا انهم هنا منذ ثلاثة أشهر، و لم يسمعوا عن أمرأة بهذا الاسم. ذهبت الى مدير المخيم ، حدثته عن مشروعنا لبناء مدرسة. رحب به كثيرا. وقال لي ساخراً : ( لو لم يولد داعش من رحم اهمالنا   لشبابنا و اطفالنا ، ولو وفرنا مبلغ يومين فقط تم صرفهم في قتاله ، لتمكنا من بناء مدارس لكل اطفال العراق !)

سالته عن امرأة لها طفلان تُدعى أمنية. بحث في كل اسماء القاطنين في المخيم لم يعثر على اسمها . نظرت لي لورا بدهشة . شكرنا الرجل ، و انصرفنا الى معسكر اخر لتوزيع بعض الهدايا التي لم نوزعها بالأمس.

حين وصلنا واخذنا بتوزيع الهدايا. طلبت من لورا ان تهتم بالأمر. فقد رأيت أمنية تمشي مبتعدة مع طفليها. وقفت في طريقها و خاطبتها :

لِمَ غيرتي المعسكر القديم ؟

صمتتْ ، أمسكتْ بجانب احدى الخيم و جلست ببطء كأنها تنهار واضعة راسها بين ركبتيها. قالت بصوتٍ باكٍ كنشيجٍ مكتومٍ :

– ماذا تريد مني ؟ قلت لك ابتعد عني.

– لماذا هربتِ مني حين علمتِ اني عرفت مكانكِ في مخيم اللاجئين السابق؟

– لم اهرب منك. لقد تشاجر ابني مع ابناء جيراننا. فقدموا شكوى عليّ باني لست مسيحية، واسكن في مخيمات المسيحين. فقام المسؤولون بنقلي الى قاطع اللاجئين المسلمين .

– ولماذا لا ينقلوكِ الى معسكر قومك الازيديين ؟

– اهلي يرفضوني ولا يريدوني بينهم .

– وما ذنبكِ فانتِ واحدة من الاف الفتيات المغتصبات رغماً عنهن ؟

– لأني لم انتحر لما رأيت الدواعش ينحرون ابي و اخوتي أمامي. لأني لم انتحر لما حملت بعد ان اغتصبني العديد من الوحوش لعدة أيام. لأني لم انتحر لما اصبحت خادمة مسبية عند احد أمرائهم. فعشت في بيته خادمة له و لزوجته ، حتى ولدت هذين الولدين. فرباهما بنفسه وعلمهما الحقد على كل البشر حتى على أمهما منذ صغرهما حتى بلغا اربع سنين. وقبل ان يهرب ربطني في احدى زوايا الدار و ضربني ، فأخذت بالصراخ. علمت فيما بعد، انه فخخ الدار ، بعد ان جعلني طعما لاستدراج عناصر الجيش القادم لتحرير المنطقة. ولما دخل احد الجنود  الذين سمعوا صوت استغاثتي ، ثارت العبوة المتفجرة وقتلته. صمتُّ عن الصياح و اغمي علي بعد ان اصابتني عدة شظايا في ساقي ويدي.

– اكملي ماذا حصل بعد ذلك.

– نقلت الى المستشفى لفترة. ثم نقلت بعدها الى احد المخيمات. و في احد الأيام جاءوا بطفليّ ، فقد تم العثور عليهما قرب جثة متفحمة  للرجل الذي ربّاهما . عرضوهما في ساحة المخيم فتعرفت عليهما ، فهما ثمرة سفاح داعش المحرمة التي رفضها قومي.

– هل ستبقين في هذا المخيم ؟

– نعم لبعض الوقت.

– وبعدها اين ستخرجين ؟

– لن اخرج الى اي مكان. سوف ينقلونا الى مخيم اخر تقطنه  طائفة اخرى . فقد اتشاجر مع بعض نساء المخيم للحصول على بعض الاغذية الشحيحة التي توزع او الوقود ، او ربما  بسبب شجار  قد يقع بين اطفالي و اطفالهم ، فيقوم احدهم او احداهن بأخبار المسؤولين باني لستُ من طائفتهم فيتم نقلي وهكذا يتكرر الأمر مرارا.

– و انتِ من اي طائفة الآن ؟

– لست من احد ، و لا مع احد . انا مع الرب وحده.

– اذن كيف سأعثر عليكِ في المرة القادمة ؟

– لا تبحث عني .. اذهب في سبيلك كما ذهبت سابقا و هجرتني و ذهبت .. اذهب ..

واخذت تبكي …

تذكرت وجهكِ المشرق ؛ حين تمسكين بذراعي ؛ أيام حبنا الاولى. حينها قلتِ لي، المرأة لا تبكي بسب رحيل الرجل الا اذا كانت تحبه بصدق !

جلست على الارض أمامها ، و قلت :

عشيرتكِ حاولوا قتلي و اخبروني انهم قتلوكِ ، فهاجرت فاقدا لروحي التي ماتت يومها. لقد متُ كل يوم في الغربة . لو كنتُ اعلمُ بانكِ مازالتِ على قيد الحياة لَجِئْتُ لإنقاذك و الزواج بكِ ، حتى لو كنتِ مغتصبة الف مرة . أ تفهمين كم احبكِ ..؟

رفعت راسها و مسحت دموعها .  كدت احضنها  ، لولا انها بدأت فجأةً بالجري  نحو طفليها ، فقد كانا يتشاجران مع طفلين آخرين . صرخت  بهما: (لا تضربا احداً.. يكفي ، كل يوم ننتقل الى مكان اخر بسب شجاركما مع اطفال الجيران . لم  يهربا منها ، ولم  ينصتا لها ، بل اخذا بالتحديق بها بحدة  وغضب . كانا مُحْلِقَي الراس مما يجعل رأسيهما يبدوان كبيرين قياسا الى جسميهما النحيفين . سالتها :

لماذا حلقتي شعرهما ؟

اجابتني وهي تلهث من التعب :

الا ترى القمل والحشرات في كل مكان .

تعالي معي ، اتركيهما ، و اتركي  هذا الجحيم  ، وَ لِنَمضِ بعيدا.

لن اتركهما مهما فعلا .

ارجعي الى بيتكم في سنجار .

لم يعد لي بيتاً.

سأبنيه لكم من جديد .

أرجعْ لي أمي وابي  و اخواني و اخواتي ، و سوف اعود . ارجع لي عذريتي و شرفي وسوف اعود !

الى متى ستبقين لاجئة في وطنكِ ؟

صرخت بي و هزتني من قميصي ،

سأبقى الى الابد !  او يرجع أمي و ابي و اخوتي من الموت . هل تقدر على اعادتهم  الي .. تقدر ..؟

ما ذنب ابنيكِ ليبقيا في هذه المعاناة  هنا ؟  حدقت في عيني وسألتني :

هل تعرف ماذا سماهما الأمير الداعشي ، الذي ولدا في داره و اعتبرهما حفيداه ؟

لا .. لا اعرف

قالت ، وهي تضغط على راسيهما :

يأجوج و مأجوج !

وما الذي يعنينه ذلك ؟

يعني انهما سيكبران ليأخذا بثأر ابائهم الداعشيين، بعد ان يقطعا الثديين اللذين ارضعاهما!

اشحتُ بوجهي عنها وعن نظرات الطفلين الغاضبة ، كانت عيوني مليئة بدموع اليأس و الاسى ، ولم اقدر ان انظر اليهم مرة اخرى .

حين عدت لغرفتي في الفندق مساءً ، شعرت بالاختناق ، نزلت الى مقهى الفندق بحجة طلب فنجان قهوة . فتحت حاسوبي و نشرت تغريدة على حساب تويتر

# ((هل كانت هذه حكاية من حكايات الحب التي تحولت الى حقد وانتقام ، أم حكاية لاغتصاب وطن مات في صدورنا . فاحترقت قلوب محبيه وتبعثرت كرماد تذروه ريح صحراء مخيمات اللاجئين ، حتى سقط فوق سطح مياه نهر دجلة و اختلط بدماء المغدورين ؟ ))

ثم ارسلت بريداً الكترونياً الى سعد و سعيد :

(( بمناسبة دماء المغدورين . شاهدت في نشرات الاخبار ان عَبَّارة في الموصل غرقت اليوم و استشهد غرقا مئةٌ وعشرون شخصاً . طفت جثثهم في نهر دجلة حتى وصلت الى سد سامراء. تذكرت ما حدث في فاجعة جسر الائمة  قبل اربع عشرة سنة ، و كم اشعلنا وقتها من الشموع لكي يكف النهر عن تقبل المزيد من الضحايا . لكن يبدو ان جرح  هذه الارض لن يندمل قريبا ! هل يمكنكما عمل  تقرير مماثل لما انجزناه سابقا ؟ انا على اتم الاستعداد للمساعدة ان احتجتما لأي معلومات. دونت كل ما حدث ، معي بصدق و أمانة. و مهما سيحدث لي ، فلن اكون نادما يوما على كل كلمة كتبتها . القصة اصبحت  الان ملككم للنشر او الاهمال .

تحياتي القلبية.

اخوكم مسعود

اربيل

21 –اذار -2019 ))

 

 

عدت الى الغرفة ، اغلقت الحاسوب ونمت ، قبل ان تصحو لورا من النوم.

في منتصف الليل صحوت فزعاً من كابوس مرعب. كانت الكوابيس قد هجرتني منذ سنين طويلة . لم اكن قد استجمعت افكاري ، حتى فاجأتني لورا ، التي يبدو انها صحت على صوت صراخي ، قالت لي : ( اكتب ما رايته في حلمك ، لابد ان نرسله الى طبيبك. اشعر انك لست على ما يرأم منذ عودتنا الى العراق ) وعدتها باني سأفعل ذلك صباحاً . جلبت حاسوبي، وقالت : ( اكتبه الان فهو لازال في مخيلتك .)

 

# كابوس الليلة الرابعة (كابوس ليلة يأجوج و مأجوج الثانية!)

(( كنت اسير في غابة كثيفة بأشجارها المختلفة الاشكال و الالوان. اصوات الطيور جميلة. وهناك حيوانات مختلفة يشربون من بحيرة تبدو أمامي. كنت عطشا . اردت الوصول الى البحيرة. لكن البحيرة بمن حولها كانت تتحول الى سراب يرحل عني لمسافة قصيرة و يدعوني اليه من جديد . وفجأةً تحولت الغابة الى صحراء مقفرة و اختفت اصوات الطيور و الحيوانات التي تشرب من مياه البحيرة. وحدها البحيرة تحول ماؤها الى سائل لزج اسود  . ظهرت أمرأة غريبة ، جميلة في منظرها لكن عيونها تُظهر الشر و الطمع . قالت لي: (اشرب قدر ما تستطيع فسوف تحتاج الى كل قطرة!). لم استطع ان افهم ماذا تقصد. بقيت جاثيا أمام البحيرة لفترة ، انظر في سوادها الذي كانت تضيئوه  مشاعلُ نيرانِ آبار نفطٍ تبدو انها قريبة لكنها دون حرارة. فانعكست صورة وجهي على سطح السائل الداكن. قالت لي المرأة: (اركض بسرعة ، لقد جاؤوك ، لقد وصلوا) رفعت راسي ، لم ارَ شيئا. اختفت المرأة . من خلف التلال البعيدة ظهروا .. كانوا بالآلاف. قامتهم قزمية .. ووجههم كوجه طفلي أمنية .. كلهم متشابهون .. كأنهم مستنسخون .. كانوا غاضبين جدا، يحملون بأيديهم سيوفاً و سكاكينَ و رماحاً صغيرة الحجم ، يحملونها بأيديهم القصيرة .. كانوا يركضون بسرعة منحدرين من اعلى التلال نحوي … سمعت صوت أمنية يأتي من السماء…( اهرب .. اهرب .. فانت تجيد الهرب ..) رفعت راسي الى السماء ، اريد رؤيتها .. كانت السماء ملبدة بغيوم سوداء تخفي شمساً لم اعرف هل كانت على وشك الشروق أم الغروب .. هل سيطلع الصباح أم سيحل الظلام … صرخت بأعلى صوتي : ( أمي ..اخبريني هل هذا حلم .. هل انا احلم ..؟ ) .. كانوا يسرعون نحوي .. كادوا يصلون .. وجوههم كأنها لموتى خرجوا من قبورهم .. هل هم من الزومبي .. هل هم احياء أم أموات … هل هم يأجوج و مأجوج .. كادوا يصلون …كنت اركض .. اركض … احاطوا بي من كل جانب … سكاكينهم و حرابهم ارتفعت الى الاعلى و هوت .. صحوت صارخا … احتضنتني لورا  قالت : (لا تخف . لقد ذهبوا ، انه مجرد حلم مزعج ! اكتبه بأسرع وقت .. فنحن  نراقب  كل من يظهر في أحلامك). كنت لاأزال في منتصف الحلم .. لكني عرفت وقتها باني ما ازال احلم ، فصرخت … استيقظت لورا على صوت صراخي ، وقالت : اكتبه الان فانا  لازلتُ اراقب كل ما يظهر في حلمك!)…، كنت ما ازال احلم ،….!)).

 

طلبت مني لورا ان آخذ حماما ساخنا بسرعة ، فأمامنا يومٌ طويلٌ من العمل . حين خرجت من الحمام .اغلقت لورا حاسوبي بسرعة و ابتدأتني بالكلام :

– ( حسنا لنرتدي ملابسنا ؟ ) ،

-( هل تتفقدين شيئا في حاسوبي ؟ )

– ( راجعت ما كتبته عن الكابوس لقد ارعبني حقا ، متى ستبعثه الى Dr. Goody ؟) 

– ( لسنا على عجل. سأبعثه بعد عودتنا من العمل .)

 

كانت لورا تبدو مضطربة هذا اليوم . فقد كانت تتفقد جهازها الخلوي و حاسبوها بين الحين والاخر . قلت لها : (ما سبب اضطرابكِ ؟. )

لا شيء .. ربما هي الدورة الشهرية قد تأخرتْ هذه المرة .. احس بغثيان مفاجئ .. ارجوكم اوقفوا السيارة ..

 

نزلتْ مسرعة و اخذت بالتقيؤ . اردتُ مساعدتها ، لكنها رفضتْ ، اشارتْ لي بيدها ،ان اعود للسيارة ريثما تنتهي . كان مكانا بعيدا عن المدينة . فاستغرقت وقتا لتغسل وجهها و تستنشق بعض الهواء . لكنها نسيت حاسبوها مفتوحا .. رأيت رسالة  ،وصلت لبريدها .. كنت اريد ان اعرف سر تفقدها  المستمر للبريد الالكتروني . ربما يكون شيئا مهما في العمل تخفيه عني كعادتها لتحصل على السبق في تقديم التقارير الى مديرنا في لندن . لكني تفاجأتُ كثيرا حين قرات الرسالة :-

 

المرسل : Dr. Code

المرسل اليه : لورا فيلدمان .

الموضوع : رد : كوابيس و رسائل الى غرباء ! ( عاجل! ) 

بالنظر الى ما تم ارساله من قبلكم هذا الصباح فيما يتعلق بعودة الكوابيس للعميل (911) تسع مئة وأحد عشر ، وبعد استلأم الملفات الملحقة التي تضمنت رسائله الإلكترونية الى شخصين غريبين يدعيان سعيد البصري و سعد الاعظمي . فقد تم ارسال البيانات الى نظام المعلومات الكبير ( Big Data ). وكان التقرير الوارد ، بانهما شخصان غير متعاونين. ولهما نشاطات سرية و مدونات  مريبة . وبعد تحليل كوابيسه الاخيرة ، ثبت انها  تؤكد عودة ارتفاع  النشاط السلبي لمخيلة العميل المذكور . يلاحظ بوضوح معاناته من متلازمة الخيالات البارانومية ( جنون الاضطهاد ). والتي تجعله يتخيل وجود شخصيات وهمية خلفتها ذاكرته المريضة في الماضي. وتم استعادتها بسب ضغوط بيئة العمل في المنطقة التي يعمل بها حاليا. مما يفسر عودة بحثه عن أمرأة وهمية تدعى أمنية ، لم يتم العثور عليها في سجلات مخيمات اللاجئين. على الرغم من ادعائه انها مُسجلة كلاجئة ، تسكن في الخيمة المرقمة 2305 ، لكن لم يتم العثور فيها سوى على طفلين يتيمين. فربما اوحى له خياله الفصامي المريض انهما طفلاها اللذان تركَتْهما و هامت على وجهها في الصحراء ، بسب ما شاهدته من دموية و ظلم الوحوش البشرية !

و الاجراء الذي ينصح به حالياً هو : الكتابة الى فرع الشركة في السويد لإعادته الى العيادة الخاصة باسمي الحركي Dr .Goody لغرض اعادة برمجته العصبية. وكذلك اعادة برمجة الشريحة التي تم تركيبها له في لندن بأشراف الدكتور اوبرمان.

مع التقدير

Dr. Cody F. M

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *