الابحار الرابع – الباب الثالث من كتاب المحو

الباب الطلسمي

يقرا سعد في كتاب المحو الذي اعاره له صديقه سعيد البصري ، ليصبح انسيه في مخبأه السري بعد هروبه من الدواعش . اغمض عينية ، فتح احد صفحاته ، لم يعرف ان كانت مخصصة لحياته أم لا . فقد اخبره سعيد ان احدى اسرار هذا الكتاب ، ان الصفحة هي من تختارك لا انت من يختارها. و حينما تتحدث كلماتها عن مصائر حياة اناس غيرك ، فانك سوف تكتشف في اخر الاسطر ، سر ارتباط حياتك بهم ، مهما كانت الاحداث تجري في زمنٍ يختلف عن زمنك ، او تتعلق بأشخاص لم تكن قد عرفتهم حينما اختاروا اقدارهم ! سيكون ما تقرؤه طلسماً في مصير حياة غيرك. لكن ذلك الطلسم سيحرك عدة رموز من الباب الرمزي في حياتك. فتقوم هذه الرموز بإضاءة العشرات وربما المئات من الصور الواقعة في الباب الصوري و التي ستفك بدورها شفرة الاف الاسطر و ملايين الكلمات من قصص كتاب محوك ، حتى تصل الى قصة الاثبات ، التي ستقررها بمحض ارادتك. انها سلسلة مرتبطة ، هي انعكاس لسلسة ترقي الكائنات ، المرتبطة بعروج النفوس عبر طبقات الارضين السبعة وصولا الى اعلى السموات السبعة. كما تحدث عنها الرجل العجوز لبصير القرية حين اراد وصف طبقات مكتبة بابل و كيفية ترقي المكتبيين فيها. لكن بصير القرية حين ودّع سعيداً ، مُودعا اياه كتاب المحو لم يؤكد حقيقة وجود تطابق بين طبقات المكتبة و تسلسل درجات ترقي النفس فربما هي احدى الأوهام التي اخترعها الرجل العجوز حين جلس خائبا في اسفل درجات المدرج البابلي الذي كانت درجات سلمه اربع عشرة درجة بعدد مجموع السموات والارضين. حدث نفسه : لعل الاربع عشر هو مفتاح للسر الطلسمي المكتمل ، فهو جامع لكل الكمالات وهو اكتمال لدورة الاعداد وكمال المعرفة.

ادرك سعد حين بدأ بالقراءة ، انه لم يعد يمتلك وقتاً طويلاً لتمضيته في التفكير بمتاهة الرجل العجوز البابلية فعليه ان يسرع في فك سر الطلسم ، فربما سيتم اغتياله قريبا ، بعد كشفه سر من قاموا بـ صناعة الدجال الذي نفذ مخطط صناعة نظرية المؤامرة .

ولج الباب الطلسمي و ابتدأ رحلة القراءة …

ثلاثة طلاسم ( ثلاث علب مختلفة الالوان و الأحجام و ثلاث عيون تختار ) #

# الطلسم الاول_( قرعة الدم ! )

حين خرج سعد الأعظمي من منزله في الكويت ليساهم في تحرير وطنه و اهله لم يكن يعلم انه سيغدو بلا وطن وبلا منزل و بلا اهل لفترة طويلة من حياته القادمة  . لكنّه وجد  اخيرا اهلا يبحثون عن وطنٍ مثله . فوطنهم قد سرقه الاغراب و الاصحاب . سرقه من يدّعون حبه ومن لا ينادونه الا بوطن المكونات و لا يلجؤون اليه الا حين يدر عليهم عسلاً و حليباً ،  بل عقوداً و دولارات ! بحث عن السر الذي يربط هؤلاء الناس بهذه الارض التي ما انفكت تسرق منهم اعز ما يملكون من احباب. كما افنت حروبها المجنونة اجمل أيام شبابهم و جعلتهم يلهثون خلف لقمة مغمسة بالخوف و الدم في اخر اعمارهم . كما هو حال الخال ابو وطن ،  الذي  تطوع في مدرسة الطبابة العسكرية ؛ الواقعة بمعسكر الرشيد ؛ مذ كان في السادسة عشر من عمره . و من وقتها كان حاضرا في كل الحروب و المعارك في خطوط الإمدادات الخلفية في الطبابة تارة و اخرى في التموين و الميرة . بقي محبا لوطنه يخرج كل يوم صباحا في ساحة العرضات يؤدي مراسيم تحية العلم  و ينشد النشيد الوطني من كل قلبه ؛ رغم تغير اشكال الأعلام  و كلمات الاناشيد بين فترة و اخرى. لكنه لم يكن معنياً بذلك ، بل ان الفكرة هي من كانت تستحوذ على قلبه . فكرة وجود  قطعة ارض تسمى وطناً يفني عمره القصير في الدفاع عنه . تلك الفكرة الرومانسية ذات النفس الملحمي الاسطوري . طبعا لم يكن معنياً هو بكل هذه المصطلحات، التي لم تكن تعني له شيئا. والتي ربما تبادلها المثقفون كشتائمٍ ساخرة او ذمٍّ بما يشبه المدح . او يرسمونه طلسماً مخفياً عن السواد الاعظم من هذا الشعب ، و من ضمنهم ( أبو وطن )، الذي  لم يرزق بأطفال ، حتى يوم انتهاء الحرب مع الجارة ايران. حينما بشرته زوجته بولادتها لطفلة جميلة . فطلبت منه ان يسميها ، و في عينيها دموع الفرح بولادتها و نهاية الحرب . فاختار لها أسماً ، احب ان يقترنَ بما سوف يُكنَّى به بقية عمره. فاسماها (وطن ) ، تيمناً بحلول  السلام على ربوع الوطن ، وعودته مع اصدقائه الجنود ، سالمين الى عوائلهم دون أن يُقتلوا او يفقدوا عضوا من أجسادهم .

كان واحدا من الاف الشباب العاشقين للجلوس وقت العصر عند شاطئ دجلة. جلس حيث يرقد والده في قبره قرب الجرف. كان يحمل ابنته ( وطن ) ، هي الان في الخامسة من العمر . تبكي طوال الليل نتيجة لمرضها الخبيث، فتسهر أمها على رعايتها . يخرج بها ابوها بعد عودته من العمل لتسليتها ، يحملها فهي لا تقدر على المسير، فقد بلغ مستوى تلوث دمها حداً خطيراً . لم يكن لها من علاج سوى استبدال دمها الملوث بدم جديد يحصل عليه من احد المتبرعين . كل اسبوع يجب ان يعثر على متبرع من رفاقه او جيرانه في منطقة الاعظمية. الناس هنا طيبون لكن اوضاعهم المادية تدهورت بعد فرض الحصار الاقتصادي على الوطن. كأن الحصار الذي فُرض على الوطن قد فُرض على الطفلة (وطن ) بأبشع صوره و اشدها غرابةً . فالحليب الطبي المستورد كان سعره غاليا في السوق السوداء و اغلب المهدئات كانت تصل منتهية الصلاحية . انتكست وطن في تلك الليلة. حصل والدها على متبرع جديد من اهالي الحي و احضر له كيلو برتقال مقدما كهدية بسيطة . لكن المفاجأة ان الاكياس الطبية التي تستعمل لحفظ دماء المتبرعين و نقلها الى مصرف الدم ، اختفت من كل المذاخر الطبية. لم يكن في مصرف الدم سوى عشرة اكياس وعدد المحتاجين كان اكثر من خمسين شخصا . اقترح مدير المصرف ان يتم  نقل الدم لمن في حالة حرجة فقط. صرخ اهالي الناس ، كلنا نواجه حالات حرجة . فاقترح في لحظة من لحظات الإلهام بوحيٍ من احد الملائكة او الشياطين اجراء قرعة ، اسماها ( قرعة الدم ) !

حدّق ابو وطن في كيس الدم الاخير، و تذكر قصة كان قد سمعها من حكواتي القرية العجوز الذي صادفه في احد قرى الجنوب الغارقة في الفقر أيام خدمته العسكرية. تتحدث تلك القصة عن احد مشعوذي ملوك بابل القديمة ، حيث كان يضحي بشاة ويستخرج كبدها ، ثم يقوم بمراقبة الشرايين و الاوردة التي تنزف دما لكي يتنبأ للملك بطالعة. فاذا كان فأله حسنا نصحه بالهجوم على اعدائه و اذا كان سيئا اشار عليه بالبقاء في قصره وعدم الخروج . تطلع ابو وطن في الدماء المتجمدة في الكيس اراد ان يجعل قدرها يمشي باتجاه ابنته لكي تفوز بقرعة الدم … لابد ان يكون الكيس الاخير من نصيب وطن .. لابد ان تجري هذه الدماء في شرايينها بعد ساعة من الان و الا سوف يكون مصيرها الموت … كيف يمكن ان نغير الاقدار باي دعاء نتوسل … تذكر انه لم يصلِ او يتوسل الى السماء منذ سنين طويلة . مرت كل الحروب عليه وهو في المواقع الخلفية يشارك في تضميد الجرحى او ينقل المؤن والعتاد الى السيارات العسكرية التي سوف تنتقل الى السواتر الأمامية . لم يختبر شعور الحزن في حياته. حتى عندما اخبروه بموت والده ، احس ان الرجل كان يريد الموت منذ سنين و ان الله قد حقق أمنيته . وقد فرح ان قبره على ضفاف دجلة حيث يحب اي شخص في العالم ان يقضي دهور عالمه البرزخي جالسا يتأمل بسعادة . فربما هو الان يستمع لموسيقى القبنجي او فيروز كعادته. هل ستنضم  الصغيرة وطن له في نزهته الجميلة ..(( .. لا ابدا .. لا سأركز على كيس الدم .. لماذا تأتي لي هذه الافكار المشوشة الان .. اختاروا يد طفلتي المريضة لتبعثر الاوراق  الصغيرة التي كُتبت عليها ارقام تذاكر دخول المراجعين لمصرف الدم …بعثرت الاوراق بكفها المتعبة ، قبل ان تقوم بسحب واحدة منها … سحبت وطن ورقة حظها الاخيرة في الدنيا … صوت الميكرفون يصيح .. ( الرقم 32  اثنتان و ثلاثون ). كان رقم تذكرتنا   ( 23  ثلاثة و عشرون ) .. كانت الفرصة قريبة .. اقصد معكوسة .. لا توجد محاولة يانصيب جديدة .. كان اخر كيس …. كان ابي ينظر الى حفيدته (وطن) من جلسته الرائقة على النهر القديم .. وقد تناثرت في قاع النهر الاف الجماجم العظمية الكبيرة و الصغيرة الحجم .. حدّق بها العجوز .. في تمام الساعة الخامسة فجرا .. تعرف العجوز على جمجمة  حفيدته الصغيرة التي لم يرها في الدنيا ، ففرح بها كثيرا ، كعادته كان يكسب كل الرهانات … كان الصندوق الاول قد فتحته عين العجوز النائم في القبر فوجد فيه  جمجمة حفيدته بدلا من كيس الدم  ، الذي لم يكن من نصيبها ،  كما لم يكن لي  في وطني نصيب !))

الطلسم الثاني _( كرسي الموت ) #

حين  فقد الجندي ( ابو وطن ) المحب لوطنه ابنته الوحيدة  ، شعر ان كنيته دون معنى . زوجته استحوذ عليها اضطراب عصبي غريب  شل  اطراف يديها و قدميها . فأصبحت تتنقل في البيت زحفا حتى اشترى لها  كرسياً متحركاً. لم تكن قادرة على الانجاب . تسمّم بدنها من سرطان استوطن في ثدييها . فكأن ثدييها اللذين ارضعا ابنتها وطن قد استنفدا سبب وجودهما. كان يدفع كرسيها كل  اسبوع لتلقي العلاج الكيمياوي . لم تكن الحقن متوفرة دائما فكان يشتريها بأبهض الاثمان . لم يعد راتبه كافيا للمعيشة و العلاج . فاخذ يستقرض ثمن العلاج كل اسبوع ، حتى لم يجد احدا لم يستقرض منه . استمر بدفع كرسيها نحو المستشفى . لم يكن يملك ثمن العلاج . كان الجو حاراً، جلس ليستريح . كانت يده ترتجف ربما من التعب وربما من شعور اخر غريب لم يجربه سابقا ، هو المشهور بعزة نفسه ، نائب العريف الاقدم في وحدته العسكرية الملقب بابي وطن . كان يحمل الوطن على كتفيه . لكنه يحس انه اصبح ثقيلا ولم يعد يستطيع المشي حاملا كل هذا العبء الثقيل .. استمرتْ يداه بالارتجاف .. مد يديه وهو جالس وسط الطريق .. واخذ ينشج … (( رحمونا يا ناس  .. والله ما عندنا  فلوس العلاج )). اخذ المارة يتصدقون عليه فيضعون اقل العملات الورقية في تجويف علبة صغيرة وضعها أمامه ،  او  في حضن  زوجته العليلة  التي جلست في الكرسي وهو  تنظر الى العلبة التي أمام زوجها ، مختنقة بغصة منعتها من الكلام  او البكاء . لم تكن عينها قادرة على النظر إلى وجهه .. استمرت عينها على العلبة   متمنية  لو انها قادرة على ركلها  بعيدا .. لكن حرارة الشمس جعلتها تفقد وعيها .. شيئا فشئيا لم تعد قادرة على الرؤيا فقد تجمع دخان كثيف في السماء أمامها .. احست انها اصبحت خفيفة شيئا ، فشيئا … ،  اوشكا  ان يصلا  للمستشفى ، كان ثمن العلاج على وشك ان يكتمل … استمر بدفع الكرسي المتحرك الذي اصبح ثقيلا  اكثر ، فاكثر .. حين وصل  للمستشفى اكتشف ان الكرسي كان يحمل جثة زوجته التي فارقت روحها الحياة ، حين تجمدت عيناها على منظر زوجها وهو يستجدي المارة في الطرقات!

فتحت عين زوجتي العليلة صندوق طلسمها ، فوجدت فيه بضع اوراق نقدية ممزقة لم تكفِ لشراء علاج لها!

الطلسم الثالث _( عين الوطن ) # 

حين نفقد كل احبائنا في الوطن ، لا يعد ثمة وطن بل يتحول الى طلسمٍ يصعب ان نفك سر احرفه . فتفقد الكلمة السحرية رونقها. و تفقد قطعة الارض التي حاربنا لأجل مائها و سمائها كل معنىً اخر لها ، سوى احتوائها لبضعة قبور نزورها. كما يتحول العلم الى قطعة قماش ملونة اعتدنا تحيتها في اعياد الاستقلال وذكرى الثورات المزيفة ! هكذا تحول قلب أبي وطن الى قلب دون ارض او سماء و ربما دون ماء او دماء ! وحتى رتبته العسكرية انتزعوها منه واضحى فردا في جيشٍ وهمي اسمه ( الجيش المنحل ). اخيرا اصبح حراً من كل التزام تجاه هذا الوهم الازلي المسمى وطن. لم يعد له من فروض طاعة يؤديها لأي بشر ، سوى زيارته لقبر ابنته وطن التي دفنها قرب جدها على ضفة النهر.

وصلته رسالة من رسائل الرمال التي كانت تتطاير من تراب القبور لتدخل في عينيه في أيام الزوابع الصيفية التي اضحت تجتاح بغداد ، بعد أن فقدتْ حزامها  الاخضر من اشجار البساتين التي كانت تحميها من هجمات العواصف الرملية الصفراء و الحمراء . كانت الرسالة من ابن اخته المقيمة في الكويت منذ سنوات طويلة . كان يريد العودة من مخيم رفحاء الى بغداد التي كانت تستعر على صفيح ساخن من التفجيرات و الاغتيالات بعد دخول الأمريكان . كان يشتكي في رسالته بانه كنبتةٍ بدون جذور لأنه لا يحمل اوراقاً ثبوتية لأي دولةٍ . و لا يعرف احداً في مسقط راسه في الكويت ولا حيث مولد أمه و ابيه في العراق . لم يكن يعلم ان خاله يشاركه ذات المشاعر ، بعد وفاة ابنته و زوجته بسب أمراض سببها نقص الغذاء و الدواء و الاهتمام من وطنٍ انشغل بحروبه ،و لم يتذكر ابناءه الذين ضحوا بأعمارهم لأجله. أمسى كأنه نخلة قد اقتلعت جذورها من قعر دجلة ؛ حيث كانت نابتةً لعشرات السنين ، و اصبحت كجذع مبتور يطفو فوق الماء، فتقاذفه الأمواج  التي لا يعرف اين ستلقي به .

حين عاد سعد الى بيت خاله في الاعظمية بقامته المديدة و بشرته السمراء و بلكنته الخليجية و صوته الاجش. انتاب الجيران من سكان المنطقة الفضول في معرفه ابن الاخت ؛هذا الغامض؛ الذي هبط من السماء. كان خفيف الظل يلاطف الجميع ، فيمازح الخباز و بائع الخضار و الاطفال الذين يلعبون الكرة في الزقاق . فكأنه يريد التعويض عن سنوات العزلة التي قضاها في المنفى الاختياري ، حيث العزلة في مخيم رفحاء . كان يحب ان يذوب في زحام الاسواق . علَّ الضجيج ينسيه سنوات دوي ريح الصحراء في رأسه. لكنه كان يستسلم لحزن غريب موجع ، حين يجلس وقت الغروب أمام دجلة فيتذكر سنوات البحر في الكويت و عيون نورا ، فيسقط في هوة عميقة من هدير الصمت و لا يشارك خاله في حديثه عن هموم الحياة و صعوبة تدبير لقمة العيش لرجلين بلا عمل !

قبض الأمريكان عليهما و لم يعلما السبب الا بعد خروجهما من سجن بوكا بعد عشرة اشهر. استمعا خلالها لأفكار التطرف الديني ، الذي ينتهج استراتيجية اثارة الطائفية بين ابناء  الشعب الواحد كسبيل لمواجهة الاستعمار ! بعد خروجهما من السجن كانا  بلا عمل ، و بدون اي فلس في الجيب . و بلا شعور بالانتماء لوطن ما  . فاصبحا فريستين سهلتين ، تم استدراجهما ليقعا في شرك الخلايا الارهابية . حيث  قام الشيخ  ابراهيم ؛الذي تلقى تدريبه هو الاخر في بوكا وغيره من السجون  ؛ بتجنيدهما كما نجح بتجنيد الاف من الابناء الذين اضاعهم الوطن ،  فأضاعوا البوصلة في تحديد طريق الخير وتمييزه عن طريق الشر.

حينما تصبح مهنة  صناعة  الموت عملاً يُمتهن ، تصبح قلوب صانعيه من الرجال  اشباحاً تُراقص الموت دون حياء فوق جثث الضحايا . كانا يشاركان في القتل دون ان يشاهدا منظر الدماء وجثث المغدورين ، الا عبر المقاطع التي يتم تصويرها وبثها من قبل سعد . فكان سعد يشارك في زراعة بذور الفتنة الطائفية و يسقي نبتتها كل يوم بكلام  يستخرجه من كتب الدين والتاريخ التي لم يطلع عليها قبل ذلك . فلا يعرف هل حقا ان تاريخنا  قد صُبغ بالدم لسببٍ وحيد هو الاستيلاء على السلطة لإخضاع البشر ؛ كل البشر؛ من منتصرين و مهزومين ، من مأسورين و سجانين ، من قطاعي رؤوس الى متملقي و مهرجي السلطة ، التي تقوم بقطع راس صغيرهم قبل كبيرهم اذا عصى ، و اعفائه من جزية الدم اذا اطاع ! كل حروب التاريخ تلخصها شهوة السلطة دون استثناء الا حروب الانبياء و ابنائهم الصالحين ، وما اندرها من حروب !   

غدا سوف يتوجه الآلاف بل ربما الملايين عبر جسر الائمة لزيارة الإمام الكاظم . قررت خلايا التنظيم الارهابي أحداث اشاعة بوجود شخص يرتدي حزاماً ناسفاً سيفجره وسط جموع الزائرين . سيكون أمامهم حلين أما ان يتدافعوا للهروب ، فيدوس بعضهم بعضا و أما ان  يلقوا بأنفسهم في النهر فيغرقوا جميعا ، او لربما سينجو بعضٌ منهم. وفي كل الاحوال سوف تحدث فتنة كبيرة . سوف تدفعهم الى الانتقام من اهالي الاعظمية و غيرها من المناطق المتهمة بإيواء الارهابين. و تكتمل اللعبة السياسية حينما تبدأ الانتخابات، فيكون لكل حزب قادته المتطرفون ،الذين سيذكرون انصارهم بما حدث لهم بسبب فاجعة الجسر. فيرفع كلُّ طرفٍ من الخصمين المتحاربين شعاراً موعدنا الجسر ! و يغيب عن ذاكرتهم ان من اطلق هذه العبارة هو الأمام ، الذي قصده ملايين الزائرين على مر العصور من الذين عبروا الجسر او توقفوا عند منتصفه ((..فتفاجؤوا لما رأوا اربعة حمالين يرفعون نعشا على اكتافهم ، يرافقهم منادي السلطة الذي يصيح : ( من ارد ان يأتي للتفرج على هذا الأمام الغريب الخارج على الخليفة الذهبي الحاكم بالنار و السيف، فليأتِ فقد مات حتف انفه ولم ندس له السم ! ..) .. )) استيقظ ابو وطن من نومه مرعوباً .. اي كابوس مخيف هذا .. (( نعش على جسر الائمة فجر يوم جمعة بارد .. ، الاف من الجموع تجثو باكية على نعش رجل غريب و منادٍ ينادي بالذل و الهوان على صاحب النعش و يصيح فرحا : (يا ليت لنا مثل ما اوتي ( هارون ) انه لذو حظٍ عظيم !) كيف انقلب هارون من اخٍ لموسى الى ابن عمٍّ ظالمٍ لابن عمه موسى. فجعله في طوامير سجون البصرة و بغداد، فلا يعرف ليلاً من نهار ! .. )) استيقظ ابو وطن ثانية و قد ازداد رعبه .. اي كلمات غريبة ، لن يعرف معانيها الا اذا سأل القاموسيين من العصور العباسية. غسل وجهه بالماء . لم يكن من عادته الوضوء قبل النوم ، لكن تذكر من ابيه ان الوضوء يبعد الكوابيس و الارق . فغداً تنفِّيذ العملية المترقبة ، يجب النوم و النهوض مبكرا للذهاب الى العمل (( … العمل من اجل .. من اجل ماذا ؟. .. تحرير الوطن .. اين هو الوطن .. اين هي وطن .. آه ، يا طفلتي الحبيبة لو انكِ تأتين معي غدا .. لهربتُ بكِ من هذا الجحيم الذي نعيشه.. وطن كانت تمشي أمامي على الجسر و تقول : ( بابا ، اذا سقطت من الجسر هل سأحصل على قنينة دم .. قلتُ لها : ( ستكون الدماء كثيرة غدا ، لا تبكي يا حبيبتي ) .. الإمام  بوجهه الاسمر الذي تشع منه الرحمة و المحبة يخرج من نعشه أمامي و يقول لي : ( كنتُ محبوسا في ظلمة السجن فزارني رجل صالح من اصحابي وقال لي : ( لقد ضاقت صدورنا، متى الفرج ؟) ، قلت له : ( ان الفرج قريب ) ، قال : ( متى ، يا سيدي ؟ ) فأجبته : ( يوم الجمعة ، ضحى موعدنا الجسر في بغداد ) ، ولم اخبره اني سأقتل مسموما مظلوماً. رغم علمي بانهم يخططون لذلك ، بعد ما حاولوا قتلي مرارا. لم اخبر احدا من اصحابي لمنع اشتعال نار الفتنة بين الناس ، اذا عرفوا ان الخليفة ؛ ابن عمي هارون؛ سقاني سماً. فلم اشكُ الا الى ربي فسموني الناس: كاظماً للغيض. وغدا سوف يحملون جنازتي على الجسر وينادون علي بالذل والهوان لكنهم  سيأتون .. سيأتون بالآلاف .. كل الناس المحبين لي وحتى من يحسبهم الناس من اعدائي من كل الاصقاع .. كلهم سيحملون نعشي و يقيمون العزاء و ينادون باكين : ( الا ومن اراد ان يشيع الطيب ابن الطيبين …فليأتِ ) . فيخرج الأمراء و القادة  و كبار القوم و كل اهل بغداد ، بكل طوائفها .. وستخمد الفتنة و ننتصر على الدجال ! وانت يا ابا وطن  مع من ستكون  ؟ مع ابنتك و طن و آلاف من  المستقبلين  لي على الجسر،  أم مع دجالهم  البغدادي  و اتباعه من عبدة عجل السلطة الذهبي المجوف ! …)) انتبهت من نومي  باكيا من هذه الرؤيا … نعم كانت رؤيا و ليست اضغاث أحلام ، صدقني يا سعد … هل رأيتني ابكي قبل هذه الليلة  ؟.. منذ آخر مرة ذرفتُ فيها الدمع على أم وطن ، لم اعرف سوى كظم الدمع . لكني اليوم لن اقدر سوى ان ابكي على هذا الأمام الذي ضحى بنفسه ليحمي الناس من الفتنة .. و ها هو يزورني  هذه الليلة لينقذ الملايين من نار الحرب الاهلية … ولعله فعل هذا الشي العديد من المرات عبر مختلف الازمان .. فكانت بفضل تسامحه بغداد ، مدينة للسلام .. لماذا اختارني انا ليزورني في المنام ؟ .. انا الذي لا اصلي و لا اصوم و لا افكر في ايٍّ من اعمال الخير .. اعيش يومي لآكل و انأم  كالحيوان المتوحد منذ اصبحت وحيدا .. هل تعرف يا سعد ، لماذا؟ … لكي لا نتركهم  يُنفِّذون مخططهم الاجرامي .. نعم اعرف انهم سوف يقتلونني ان وشيت بهم .. لكني سأضحي بنفسي .. لأنقذ الاف الارواح من الموت و الغرق و الارتكاس في نهر الفتنة و الانتقام .. انت، ابقَ هنا لا تخرج .. واذا استطعت  ان تهرب و تفلت منهم .. أُنجُ بنفسك .. فالموت هو ما ينتظرنا جميعا اليوم او غدا .. ماذا بقي في العمر… عمري خمس وخمسون سنة .. هب اني عشت للتسعين .. ماذا سأكسب بجسد مُدنَّس بقتل الاف الارواح .. بجسد تلعنه روحه … اذا قتلوني ادفني مع ابي وابنتي قرب دجلة الخير! و اسال الله ان يغفر لي ولك …

 

في اليوم التالي قبض رجال الأمن على الخلايا الارهابية بعد ان قام ابو وطن بإرشادهم الى الوكر السري لهم . عبرت أم أمل مع ابنتها و سعيد البصري جسر الائمة بسلام و هدوء ووصلوا الى مرقد الأمام الكاظم. ووزعوا الحلوى ، طالبين من الله شفاء أمل وكل الطيبين ببركة الأمام. ابو ايوب قاد رجال الأمن الى مكان ابو بكر البغدادي ، دون ان يعلم انهم يرصدون تحركاته منذ ان فشلت صناعة المؤامرة التي حاولوا تنفيذها. زجوا البغدادي في السجن الانفرادي. بعد ان كاد ان يقوم باقتحام مدينة الموصل مع مجموعة شريرة من الدواعش الذي تم تدريبهم خارج البلاد. فتم القبض عليهم قبل عبورهم الحدود و تنفيذ هذه المهمة ، التي كادت ان تؤدي بحياة الآلاف من الابرياء. نجت أمنية و الاف من الازيديات من الوقوع في الاسر. 

حين انتهى سعد من القراءة ، عرف ان العين الطلسمية الاخيرة قد غفت في صندوق قبر على ضفة دجلة ! قلب الورقة  التي كانت مبللةً بدمعة و بقعة دم لشهيد تم اغتياله من قبل الارهابين. شهيدٌ حافظ على الوطن و ضحى بحياته من اجل ملايين الفاقدين للوطن ، و ليس اخرهم سعد ، الذي كتب على شاهدة قبر خاله: (نَمْ قرير العين يا ابا وطن العراقيين جميعا ، و احلم بنا سعداء!)

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *