الابحار الرابع – موعدنا الجسر / جسر الائمة / فاجعة الجسر

مدونة سعيد البصري / 31 ، آب ، 2006 / بغداد ( قرب جسر الائمة )

بعض القصص قبل ان ترويها ؛ ولو بعد سنوات طويلة ؛ لابد ان تتوضأ بالدم. وحين يعترض البعض ؛ وما اكثرهم هذه الأيام ؛ أن الدم نجسٌ لا يصلح للوضوء ، فلابد ان تخبرهم بطهارة دمائهم تلك التي نزفوها و التي لم ينزفوها. اولئك الذين ارادوا عبور الجسر ، ولم يعبروه الا بأرواحهم ، و بقيت اجسادهم زرقاء منتفخة في قاع النهر او على جنابي الجسر بعد ان سحقتها الأقدام او اختنقت بالغازات.

((انه الاربعاء ، الحادي و الثلاثون من شهر اب 2005 ، كان موعدنا مع خالتي أم أمل وابنتها لمرافقتهم في رحلة هدفها الدعاء لله رب العالمين في البقعة المباركة التي دفن فيها احد اولياءه الصالحين ، في مثل هذا اليوم قبل حوالي 1240 سنة. كان رجلاً صالحاً ، لم يصالح دجال زمانه الذي حاول ترغبيه بالحصول على مغريات الجنة الارضية الكاذبة او تهديده بسطوته و تجبره العالمي. لم يترك دجال زمانه سجنا الا وزجه فيه ، و كان اخر ما فعله هو قتله مسموما في مثل هذا اليوم ، خوفا على عرشه. الذي كان يهتز من دعاء المظلومين من شعوب العالم التي قهرها بالحديد والنار و الاكاذيب الدينية ، التي كانت ابواق سلطته تروجها .وقف أمامه كرجل صالح لم يمتلك يوماً سلاحاً الا الدعاء. فكان لدعائه استجابة عجيبة شملت كل محبيه و زائريه في حياته وبعد استشهاده. فها انتم اليوم  تشاهدون معنا ، الجموع المليونية التي تعبر جسر الائمة. حيث يمسك الإمام ابو حنيفة رضي الله عنه بضفة نهر دجلة من جهة الاعظمية ويمسك الإمام الكاظم رضي الله عنه بالضفة الاخرى من جهة الكاظمية. وبينهما يمتد جسر من السلام و الوئام والمحبة يسلكه الوافدون الى مدينة السلام حيث ننقل لكم هذا الحدث الكبير من قناتنا ، …..)) 

كانت تلك الصور، تكملةً لما ابتدأناه في قرية جرف الملح  لرصد حياة معاناة البسطاء من هذا الشعب المضطهد من كل حكامه الذين حكموه لحقبٍ طويلة.

الاف من الرجال و النساء و الاطفال ، سيل جارف من الرؤوس ، التي تبدو خلال عدسة الكاميرا المحمولة بواسطة طائرة هليكوبتر تابعة للجيش. ترصد التيار البشري الذي يمشي من مناطق متفرقة في بغداد الى جسر الائمة . يزحف ككائن واحد ، اسطوري ، افعواني الشكل . لا تميز بين افراده ، النساء يرتدين السواد الكامل و الرجال بالوان مختلفة لكن جلهم يرتدون السواد كذلك ، لون الحزن الرسمي . حين يصل الموكب الى الجسر يبدأ التزاحم بالازدياد ، فقد تم وضع نقطة للتفتيش في نهاية الجسر. ازدحمت عجلات الشرطة و الدفاع المدني وبعض سيارات الاسعاف القليلة وسط الشارع وعلى الجانبين احتشدت الاف من الاجساد ، التي تتقدم خطوة فخطوة عابرة الجسر. كان صوت صافرات سيارات الشرطة يمتزج مع اصوات قصائد الرثاء التي تنبعث من مكبرات الصوت. التي تحملها بعض العجلات الخشبية  التي يتم دفعها باليد. يزداد الضغط كلما اقتربنا من منتصف الجسر . كانت أمل متعلقة بعباءة أمها التي تنحني بين فترة واخرى لتغسل وجه ابنتها بالماء . جو صيفي قائظ ، درجة الحرارة  فوق الاربعين المئوية و الرطوبة تتصاعد من مياه النهر. جو خانق من روائح البشر و النهر ، و من دخان قنابل تتساقط في مناطق متفرقة من الكاظمية . القنوات الفضائية تتسابق بنشر الخبر: (عاجل .. عاجل… أطلقت جماعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة سبعة قذائف هاون من عدة مناطق في بغداد ، سقطت بالقرب من مرقد الأماميين الكاظمين. مما أدى إلى استشهاد سبعة أشخاص وجرح سبعةٍ وثلاثين شخصاً ). الجماهير الزاحفة لعبور الجسر ازدادت اعدادها في تحدٍ عفوي. يتقدمون نحو الاسلاك ، نحو نقطة التفتيش ، التي تسقط خلفها القنابل. كل همهم الوصول الى القبر الشريف . أمل تطلب من أمها ان تجلس قليلا فقد تعبت من المسير ، قالت لها أمها : ( وصلنا يا حبيبتي , ما اكو  مكان نرتاح .. وصلنا ما بقي شيء ) .. كنت اشاهد اشخاصاً يسيرون ببطءٍ فقد هدهم المسير المستمر منذ ساعات الصباح الباكر .. و اخرين يسيرون بسرعة ، ويتخطون صفوف الزحام ، البعض يتوقفون بانتظار رفقائهم المتأخرين . مجموعة من الشباب يرجعون راكضين عكس التيار البشري صائحين: (انتحاري راح يفجر نفسه .. انتحاري …حزام ناسف .. رجعوا بسرعة ) .. في لحظة واحدة .. الاف من الناس يعكسون اتجاه سيرهم نحو بداية الجسر , التدافع المجنون يبتدئ .. يسقط الكثير من الشيوخ و النساء المسنات و الاطفال .. الناس يتجهون دون وعي الى السياج الحديدي المحاذي للنهر هربا من وسط الجسر، الذي توقفت فيه سيارات الشرطة و الاسعاف عن التقدم ، ريثما يأتي اليها نداء لتوضيح الموقف. لا شيء واضح ، فكل شيء يهتز ، حتى كأميرات النقل التلفزيوني ترتعش في ايدي حامليها بفعل التدافع .. النداء لا يتوقف يأتي هذه المرة من بداية صعود الجسر .. (انتحاري .. سيفجر روحه .. اهربوا .. اركضوا .. لا تقفوا مكانكم ..) .. اصوات الرصاص تتصاعد من عدة جهات ..من يطلق الرصاص؟ ولماذا !… هل يطلقونه لتفريق الناس أم  يطلقونه لقتل الناس ؟… دخان يتصاعد من عدة جهات .. دخان يخنق الانفاس … اين الفرار؟… الجموع من خلفنا تهرب الى الأمام الى منتصف الجسر… بعكسها هناك أُناس  تأتي من نهاية الجسر ترجع عكس التيار .. الذين في الوسط انقسموا ثلاثة أقسام .. قسم اندفعوا الى الخلف فاصطدموا بالهاربين و قسم ذهب الى جانبي الرصيف و اصبحوا بين ان يسقطوا في النهر او يتمسكوا بالسياج الحديدي الذي كانت تنبت اجزاؤه الحديدية في اجسادهم المتهالكة و القسم الاخير سقط دون ارادته ارضا فداسته الأقدام من كل الاتجاهات .. فُقدتْ أمل وأمها .. اخذتني الأمواج البشرية الى ابعد نقطة في الجسر .. كيف ساجدهما في هذا الطوفان البشري المميت ؟ كان أمرا عبثيا ان اصرخ بأعلى صوتي باسمهما فلم يكن يُسمع سوى الصريخ و صوتٍ غريب , هو صوت الفاجعة ؛ صوت لا بشري ؛ لا يمكن ان يصدر من قبل انسان ، انه صوت نياح العقل الجمعي ليس له وجه او تفاصيل. لكنك تحسه قريبا من وجهك ،قريبا من انفك و شفتيك،  فيصيبك بالبكاء الطفولي … دون ان اعي ، بدأت بالصراخ و البكاء: (خالة أم أمل .. ولج أمل …وينكم ..وينكم …اخ .. اخ … وين رحتو..) دفعتني الأمواج من جديد الى اسفل الجسر .. سقطت مغشيا علي .. الحروق في جسمي بدأت بالتفاعل مع العرق الذي ينزفه جسمي فيولِّد حكة شديدة و احمراراً لم يحصل لي منذ زمن طويل. سقطت مغشيا علي قرب جرف النهر ، لما رأيت اجساد الغرقى الذين استخرجوهم من النهر .. تصفحت الوجوه .. كانت خالتي أم أمل مسجاة ، وقد فقدت غطاء راسها و خمدت انفاسها اللاهثة. افقت بعد فترة حين هزتني يده بقوة ، لم اتذكره اول وهلة .. كان وجهه قد ازداد سمرة انه صديقي سعد الاعظمي  ، قال لي و هو يلهث : ( سعيد ولك سعيد جاوبني .. انت ميت لو بعد بيك روح ..؟) لما راني قد وعيت ، لم يكلمني ، تركني وهرول باتجاه النهر، رمى بنفسه في النهر. كان يجلب الاشخاص من وسط النهر الى الحافة قبل ان تغمر مياه النهر قمة رؤوسهم . ترشده اليهم ايديهم ، التي تتصارع للوصول الى السطح لطلب النجدة. فاذا  غطسوا بالكامل ، فترشده اليهم الفقاعات التي تصعد الى السطح هنا و هناك ، قبل ان يلفظوا انفاسهم الاخيرة . استمر الشباب يستخرجون كل من قاوم الغرق ، الى ان حل وقت الغروب. حيث تم تفريغ الجسر من الاحياء . و لم يتبقَ سوى جثث الأموات المُمدَّدة عند ساحل النهر و فوق الجسر والتي استمرت سيارات الاسعاف حتى وقتٍ متأخر من الليل تنقلها الى ثلاجات الموتى. التي لم تتسع الى قرابة الالف شهيد رحلوا الى السماء شاهدين على فاجعة العصر. لكن ابو وطن ؛خال سعد ؛ بقي تحت مياه دجلة غاطسا لفترة طويلة من الزمن ، فقد نضبت قواه ولم يقدر على الخروج من قعر النهر بقي هناك مع المئات من الجثث الغارقة بعد ان انقذ العشرات.

اكتب مدونتي هذه في الذكرى السنوية للفاجعة ،حيث طلبت من بعض الاصدقاء ان يسجلوا شهادتهم  للتاريخ . على الرغم من ان طلبي منهم ان يسردوا ما شاهدوه او سمعوه سيهيج احزانهم. و بالخصوص ابنة الفقيدة ( أمل ) و صديقي سعد الاعظمي و والد الشهيد عثمان ، و كل من عاش الفاجعة او فقد عزيزا له في ذلك الاربعاء الاسود.

الشهادة الاولى ( الطفلة أمل / 11 سنة ) #

ذهبتُ مع أمي الى الزيارة مشياً على أقدامنا . كانت تعطيني انواعاً من العصائر التي تُوزع في الطريق لما وصلنا في بداية الجسر وبدأنا نمشي ، صار تدافع و ازدحام كبير. اطلاقات نار و غازات اخذتني نوبة من السعال. اخذتني أمي جانباً ، فجانباً حتى وصلنا الى الحاجز الحديدي قرب بداية الجسر. طلبت من احد الشباب ان ينزلني الى الارض حملني على كتفه وانزلني على الارض. رأيت أمي تلوح لي بيدها : انتظريني .. انتظريني ، ثم طار منديل راسها. و جاءت موجة من الزحام لتدفعها باتجاه النهر و غاصت في الزحام ، لم ارها بعد ذلك. اخذت ابحث عنها دون جدوى ، حتى وجدني اقاربنا سعيد وسط الزحام. لم يخبرني انها ماتت ، بل اخذنا لبيت اقارب لنا في بغداد. اخبرهم بشيء ما فاخذوا بالبكاء. سالتهم ما الذي حدث : ( وين أمي ؟). قالو لي : ( أمكِ ماتت !) الجميع كانوا يبكون الا انا ، كانت صدمتي اكبر من البكاء. تغيرت كل حياتي بعد رحيل أمي فقد ذهبت الى بيت خالي للعيش معه. اكتشفت بمرور الأيام اني شفيت من سرطان الرئة بدون ان اتلقى اي علاج!

 

# الشهادة الثانية (والد الشهيد عثمان علي العبيدي)

ارتفع نداء الاستغاثة من منارة جامع الأمام الأعظم ؛ ابي حنيفة النعمان ؛ طالبا من اهالي الاعظمية المساعدة لإنقاذ الزوار الذين سقطوا في النهر و الذين تعرضوا للدهس. كان ابني عثمان؛ الذي يعمل في مخبز للصمون في الحي؛ أول من لبى النداء مع مجموعة من اصدقائه و جيرانه. ظلوا حتى المغيب ينتشلون  الغرقى و ينقلون المصابين الى سيارات الاسعاف. حين حل المساء لم يعد ولدي ذو التسع عشرة سنة الى الدار مع اصدقائه الذين عادوا الى اهاليهم. سألتُ عنه اصدقاءه ، صمتوا في البدء و لم يجبني احد منهم. غير ان احدهم التمعت الدمعة في عينيه وقال لي : (عمي .. ابنك عثمان بطل .. رمى بنفسه في النهر و انقذ الكثيرين من الغرق .. آخرهم امرأه كبيرة بالعمر ، كانت ضخمة الجسم .. بقيت تصارع للتشبث بالحياة ..اراد ان يسحبها لكنها أمسكت به من رقبته … التفت عباءتها السوداء حول جسمه المرهق … فبدلا من ان يقوى على اخراجها سحبته هي .. غط جسميهما تحت سطح الماء .. بقيت ذراعه تلوح لنا مودعة … حتى غاصا سوية في النهر!) 

ركضت ابحث عنه في كل المستشفيات . اكشف عن وجوه الموتى التي غطيت بورق القصدير (السيلفون). لم اجده. صريخ الأمهات؛ اللواتي كنّ يحتضنّ جثث ابنائهم؛  يدوي في ردهات و ممرات المستشفيات مقطعا لقلب الحجر قبل قلوب البشر، التي يكاد الالم يوقف نبضها . وصلت اخيرا الى مستشفى عدنان خير الله . كان الحرس الوطني يمنعون اهالي الضحايا من الدخول الى المستشفى . طلبت من احد افراد الحمايات ان يسمح لي بالدخول قال لي : (انتظر قليلا ، ابقَ هنا بقربي). مرت احدى الاسرة المتحركة التي تحمل جثث الضحايا المغطاة بالسيلفون. كانت تحمل شابا بنفس طول قامة ابني . قلت لنفسي : ( يمكن  هذا وليدي ، هل يسمحون لي بكشف وجهه ؟) . الريح قطعت حيرتي و ازاحت ورق السيلفون عن وجهه. صرخت: (عثمان وليدي كسرتَ ظهري!). اخذت بالنحيب الهستيري حتى سقطت مغشيا عليّ . بعد استفاقتي في اليوم التالي : سألني الطبيب هل تعاني من مشكلة في القلب . قلت له : لا . اخبرني ان قلبي توقف و تعرضت لذبحة قلبية كادت تودي بحياتي   لولا عناية الله. فقلت له : (انه ولدي  الوحيد  ، وانا عمري خمسين، بعد ما عندي أمل بالدنيا ) .

اقيم عزاء كبير في الاعظمية حضره وفد ممثل عن زوار الأمام الكاظم  والكثير من الشيوخ و الوجهاء و المسؤولين الحكوميين ومن كل الاحزاب و الاتجاهات، عرفاناً منهم لموقف الشهيد عثمان، الذي زينت صورته الشوارع و البيوت . الجميع قالوا انه من اطفأ الفتنة التي خطط لها اعداء هذا الشعب بزرع الفتنة الطائفية.

في حفل التأبين ، اعتلى المنصة الشاعر ذو القصيدتين  ، الذي جاء من اقصى الجنوب لعزاء العراق بشهيده البطل. فأبكى الحضور ، بقصيدة انشد فيها :

(( وأمس هذا الأمس ما صار اله هواي ،

عثمان العبيدي ضحى بحياته.

مو لحظة خجل و استحى من الناس ،

الفاعل غيرته مو مستحاته ،

كض لسان دجلة وجره للكاع ،

لحد ما زوعه و طلع خواته !

دجلة زاعهن مو جان شبعان ،

لكه عثمان واكف اله بلهاته !

والنعمان كبر فزعَ الناس ،

لان جانن هذني مخدراته.

وعلى جرف النهر هوس  النعمان ،

شايل بريقه و تفتل عباته.

وانت احكم بعد نفترق شلون ،

اذا عدنا شعب هذي صفاته ! )) * * *

 

# الشهادة الثالثة ( مدون محايد : مسعود كاكا علي )

كارثة جسر الأئمة ، تلخص قصة اشاعة كاذبة  فعلت في لحظات ما لم تفعله عشرات السيارات المفخخة و الاحزمة الانتحارية . فقد شهدت الحادثة استشهاد اكثر من ألف شخصٍ ما بين غريق و من استشهد دهسا بالأقدام . واصابة ثلاث مِئةٍ وثمانيةٍ وثمانين شخصاً. و خمسةٍ و عشرين شهيدا نتيجة تناول اطعمة قد سممت عمدا. هناك تقارير و تحليلات أمنية و سياسية تتحدث عن اسباب متناقضة فتحت الباب للحديث عن نظرية صناعة المؤامرة خلف هذه الكارثة الانسانية. فالجسر كان مغلقاً لأشهر كأملة قبل فتحه بأيام من يوم حدوث الفاجعة. الجهات الأمنية لا تعرف من أمر بالسماح بافتتاحه. الجهات الأمنية نصبت حواجز كونكريتية و نقطة تفتيش ساعدت على حدوث ازدحام كثيف ولم تتم معالجة هذا التكدس البشري في وقته. في اول الصباح سقطت قذائف في مناطق متفرقة ولكن لم يجرِ تنبيه الزوار بالرجوع الى مساكنهم او اداء الزيارة من مناطق لا يكون فيها استهداف ارهابي. هناك اتهام من بعض القنوات الفضائية بان من صرخ بالناس؛ أنّ هناك حزاماً ناسفاً سوف يفجره ارهابي ؛ هم افراد القوات الأمنية انفسهم لكي يعجلوا بتقدم الناس و تفريقهم بسرعة ! اصوات الرصاص و الغازات كان مصدرها مجهولا ولم يجرِ التحقيق مَنْ هي الجهة التي اطلقتها التقارير تكون احيانا مبالغا فيها عبر توجيه القارئ الى عناوين تجذب الانتباه . عناوين مثل ، كشف الغاز الحادثة .. كشف مؤامرة دولية كبيرة .. تقصير جهات حكومية ..، كلها تندرج ضمن الصناعة الأعلام ية المبرمجة لتوجيه الجمهور. لكن الشيء الحقيقي الذي توجهت اليه كل الانظار في هذه الحادثة هو ابراز  شخصية الشاب عثمان العبيدي كشخصية بطولية اسهمت في افشال المخططات لإشعال حرب دينية طائفية. والتي قامت بالتخطيط لها على ما يبدو وفقا لأصحاب نظرية المؤامرة عدة جهات متحاربة في الظاهر ، لكنّها في الباطن يجمعها هدف واحد ، هو البدء في الحروب التي تُنمِّي المصالح الاقتصادية والسياسية والتي تتلخص في السلطة و المال. دون الاهتمام بعدد الضحايا او انتمائهم. بل كلما كان عددهم اكبر وانتماؤهم مختلفاً في كل حادثة ، كان ذلك مثاليا لتلك الاطراف ! كانت كل التقارير تعتبر عثمان بطلاً قومياً لكل البلاد. هذا الشيء اسهم في اخماد او على الاقل تأجيل الحرب الطائفية ؛ على الاقل في تلك الفترة ؛ والسؤال الاساسي هو: لو لم يكن عثمان العبيدي موجودا في ذلك الوقت وفي ذلك المكان فما الذي سوف يحدث في مساء تلك الليلة ؟

في تلك الليلة ، كنت نزيلا في احد الفنادق المطلة على نهر دجلة ، ليس بعيداً من مكان الحادثة التي شاهدتها في التقارير التلفزيونية و عبر المواقع الالكترونية . لكني في المساء نزلت الى شاطئ دجلة لأرى الكثير من النساء و الاطفال و بعض الشباب يوقدون شموعا و يضعونها في زوارق ورقية صغيرة. ابحرت زوارق الشموع من جانبي دجلة ، و الى جنبها طفت جثث الضحايا التي جن عليها الليل ولم يتم انتشالها. كان ايقاد الشموع على ضفاف الانهار، لإظهار الحزن و المؤاساة ؛ طقسا معروفاً عند سكان وادي الرافدين منذ قديم الزمان .و لعله من الطقوس القليلة التي لم تتغير، لعدم وجود مُعارض لها ، او ربما لاستمرار سقوط الضحايا في هذا النهر منذ دخول هولاكو الى بغداد و اصطباغ دجلة بالدم .

حين عدت للفندق نشرت تغريدةً على حسابي في تويتر :

# موعدنا_الجسر (هل نحتاج الى الف قربان لكي نتوحد ؟ كم من الضحايا علينا ان نقدم لكي تتطهر قلوبنا من الاحقاد القديمة ؟! اختلطت دماء شعبنا على قارعة جسر الائمة دون ان تُعرف من اي طائفة هي . الدم البشري لا يعرف الطائفية . فالضحايا قد تعانقوا حتى وصلوا لقاع النهر. احتضنهم نهر دجلة جميعا ، ولم يميز بين الاجساد حسب طائفتها ! قَبِلها النهر جميعها ، ثم غسلها ، فَطَهُرَتْ ، لتطفوَ و تنساب بسلام تحت الجسر عند موعدها الاخير!).

الشهادة الرابعة ( سعد الاعظمي ) #

* ملاحظة هامة ( تم اضافة هذه الشهادة الى المدونة الاصلية في 18، ايلول ، 2018 ).

حين تصحو من غفوة الموت لا تتمنى شيئاً اكثر من عدم النوم ابداً ، و البقاء مستيقظا حتى لو كلفك ذلك حياتك . لتروي كيف ولماذا حصلت كل هذه الأمور المريعة التي لا يعلم سوى الله كم من الناس ماتت فيها ضمائرهم وكم من روحٍ استيقظت فيها انسانيتها.

كانت الخطة قد أُكملتْ لعمل كبير يعجِّل بمشروع اشعال شرارة الفتنة الطائفية و تم تسميته بـ (يوم النصر على الطوائف). ارسلوا لنا خطوات المشروع : اولا ؛ نشر بيان على موقع على الانترنت ما نصه ( ان مقاتلي «جيش الطائفة المنصورة» قاموا «بقصف معقل الشرك و وكر المرتدين من الرافضة في منطقة الكاظمية بقذائف الهاون والكاتيوشا). ثانيا ؛ عمل مضايف وهمية ، يقدم فيها طعام مسموم لمواكب الزوار. ثم يتم نسب تلك المضايف للطائفة السنية. ثالثا ؛ اشاعة وجود انتحاريين يلبسون احزمة ناسفة بين الزوار و نشر ذلك في مواقع التواصل. رابعا ؛ نشر اخبار متضاربة حول وجود هجمات انتقامية من قبل الشيعة ضد مناطق السنة و اعتداء على بيوت الله . خامسا ؛ التفاعل مع التطورات على الحسابات الوهمية  المنسوبة للطائفتين لإذكاء روح الانتقام و تسريع سقوط الحكومة العميلة للمحتلين و خروج المحتلين من البلاد .

اتى الأمر بنشر خبر قصف القذائف في الساعة التاسعة صباحا. بعد تنفيذنا للأمر بساعتين ، جاءنا ابو ايوب و أمرنا بنشر الاشاعة بوجود انتحاريين مندسين بين الجماهير لتفجير الجسر عن طريق حساباتنا الالكترونية الوهمية.

انقضت ساعة كأملة لم تصلنا اخبار جديدة . لم يأتِ خالي بالمؤونة اليومية ، كان جهاز نقاله مغلقاً . طلب مني ابو ايوب ان اذهب للبيت للبحث، و سؤال الجيران عنه اذا لم اجده. ذهبت الى بيتنا في الاعظمية للبحث عنه. لم اجده في البيت خرجت من البيت , كان الشباب في منطقتنا يتجمعون على غير العادة . سالت عن خالي ابي وطن. قالوا انهم شاهدوه قد ذهب قرب النهر للمساعدة في انقاذ الناس . لم اتمالك نفسي من الدهشة سالتهم : وماذا حدث للناس اجابني ابن جيراننا الشاب عثمان : ( الناس دا ترمي بنفسها من فوق الجسر.. هواي نساء و اطفال حي يغرقو .. أمهاتنا و خواتنا .. نروح نطلعهن .. تعال ويانا بسرعة !). لم اعرف كيف نسيت كل شيءٍ حين سمعت صوت صريخ النساء و بكاء الاطفال من بعيد. وحين وصلنا للنهر كان المئات يستغيثون ، كانت النساء المسنات في العمر قد سقطت عباءاتهن السوداء وطفت على وجه الماء . كان مشهدا مخيفا و مرعبا. لم ارى مثيله في حياتي.

ارتفعت اصوات الصراخ : الله اكبر .. الله ينتقم منهم … تصم الافاق .. في بداية الجسر كان هناك رجال و شباب يطلبون ان يمسك بأرجلهم احد من الرجال الذين في الاسفل لكي ينزلوا من فوق الجسر الى الارض ، و قسم اخر يطلب ان يساعد احداً احبابهم الذين سقطوا في النهر. شاهدت أمرأه عجوزاً تصرخ : ( بنتي محد شاف بنتي .. ) .كانت قرب السياج الحديدي الذي انهار تحت الضغط الشديد ،  ثم سقطت المرأة في النهر أمام عيني ..لم اتمالك نفسي.. القيت بنفسي بأسرع ما استطيع في النهر .. انقذتُ رجلاً مزرق الجسم الى الحافة… لكنه كان يلفظ انفاسه الاخيرة .. رايته ينطق الشهادتين و يموت أمام عيني .. رجعت الى النهر اكثر من مرة. كنتُ خائر القوى. رأيتُ صديقاً قديماً يدعى سعيد البصري، تعرفت عليه من وجهه المحروق ؛ الذي رايته في صورة ارسلها لي  قبل بضعة اشهر؛ .. انه مراسل لأحدى المنظمات الاجنبية …ما الذي اوصله الى هذه النهاية؟ .. أمسكت بيده.. وضعت اذني على قلبه ، كان النبض يدب في جسده … حركته بقوة … استفاق .. كنت اريد ان اساعده على النهوض … لكنّ صوت خالي ابي وطن فاجأني : ( ها ولك سعد انت هنا ! ) هزني بعنف : ( ها سعد .. هم ارسلوك .. لو انت اجيت  من كيفك؟! ) بكيت بشده : ( الله  اكبر .. تعزينا خالو …هذول اهلنا.. هذول اهلنا .. اهنا يموتون )… عانقني بشدة ..سقطنا في النهر متعانقين ، ونحن نبكي بشدة : ( سأمحنا يا ربي .. سأمحنا يالله ) . تركني انوح وحدي وجرى نحو النهر وصاح : ( الله وياك خالو .. لو اطلعهم كلهم ، لو وياهم أموت.. ) لم اجبه بشيء . ركضت خلفه .. مشيت خطوات .. كنت اترنح من الاعياء … انطفئ ضوء الشمس في حدقتيّ عينيّ و تحول الى هالة خافتة  تحيط ببقع صغيرة معتمة … سقطت في الماء .. جرفتني الأمواج المنتقمة من مؤامرتنا الكبيرة ، وجرتني الى الاعماق  المظلمة حيث تنتظرني الاف العيون المتسائلة : لماذا ؟!

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *